لما كان غاية المحبة أما وصولاً إلى المطلوبات الدنيوية أو الأخروية ومبدؤها من الحواس الظاهرة غالباً والباطنة ومطالبها العالية ومقاصدها الذاتية وأما اشتغال عن الحق بخيالات وهمية تنتقش في العقل من الخلق أو ميل نفسي إلى المبدع باستيحاش ممن سواه لا جرم قسمت المحبة قسمين أشرفها متعلقاً الثوابي وهو الحب في الله لأنه لا يفني متعلقه ولا تكيف غايته ولا يفضله شيء في الحقيقة إذ ما سواه وهام وتضمحل وتزول وأعراض تفني وتحول ولا شبهة في أن إدخار ما لا يتطرق إليه تغير ولا فناء أولى في الحكمة عند العقلاء فلذلك صدرت به الأبواب ومدار ما يذكر هنا في الأصل على ذكر من أنفى نفسه في طاعة ربه وأكثر اغترافه من الحلية لأبي نعيم إذا تقرر هذا فحد المحبة كما قال الحصري وصول إلى مقام الأنس والنعمة باطناً والوحشة والبلاء ظاهراً بشرط الإشراف على الغيوب وفناء الكل في بقاء المحبوب وهذا تعريف لها بحسب الغاية الخاصة وكان عليه أن يورد التعريف التام العام أولاً ثم يفصل وقال الاستاذ أبو يزيد البسطامي هي استهلاك النفسانية مع بقاء الروحانية وهذا عندي قريب من الأول غير أن بعض شراح النصوص قال أن فيه تعريفاً بالمادة وأظنه أخذ ذلك من قوله استهلاك وفيه تكلف ونقل الحدين البحراني في شرح التائية على قول الاستاذ فقالت هوى غيري قصدت وأقرهما وأحسن منهما ما نقل عن شيخ الطريقة الجنيد رضي الله عنه وقد سئل ما المحبة فقال هي الصفاء في الباطن مع حقائق الحق والوفاء في الظاهر مع استعمال دقائق الشرع فهذا والله هو الحد التام وإن كان إلى الخاص أميل فإن قوله الصفاء في الباطن يريد به الخلوة الحقيقية التي هي قفل أبواب الحواس عن ممارسة الخلق ونشر القلب بالاستكانة والخضوع على أعتاب الحق ونفي الكدورات الحسية عن الحواس النفسية لإلحاقها بالحضرة القدسية وذلك غير تام قبل نفي العوائق وقطع العلائق والخروج من شوائب الخلائق ليتحقق الصفاء والتخلق بتلك الحقائق
هناك وجدت الكائنات تحالفت ... على أنها والعون مني معينتي
حيث انتفت معاندات الأغيار وتحققت ممازجات الأخيار حتى انتقشت المطلوبات الحقية في مرآت الصورة الخلقية وانبسطت أشعة الأحوال البسطية حيث انتفت الكدورات الوحشية.
فلم تهوني ما لم تكن في فانياً ... لم تفن ما لم تجتلي فيك صورتي
وقوله والوفاء في الظاهر يعني لكل معاهد بعهده وموعود بوعده وضال برده ومتغفل بتنبيهه وتقوية جده لأن العارض المتصف بما ذكر خليفة الله على خلقه ينفذ فيهم أوامره ويقيم شرائعه فإن فعل ذلك ظاهراً وباطناً فهو النبي وخلفاؤه ومن فعله على الأول فهم السلاطين أو على الثاني فهم الأفراد الأقطاب جوامع الأسرار ومعادن الحقائق والاستبصار علماء أمتى كأنبياء بني إسرائيل وورثة الأنبياء
فعالمنا منهم نبى ومن دعا ... إلى الحق منا قام بالرسلية
وأما قوله استعمال دقائق الشرع فإشارة إلى معنى لا يدركه إلا الخواص وإن غاص عليه من غاص فإن فيه إشارة إلى حفظ الكليات التي عليها مدار النظام واستقصاء الجزئيات التي قصر عنها الكلام واجتهاد النفس في جمع ما تفرقت فيه الآراء وتشعبت إليه الأهواء بيد أن ذلك قباء لم يخط على كل ذي قد وأشكال أقيسة فكر لم يستخلصها كل ذي جد اللهم حققنا بحقائق معارفك وأرفعنا من حضيض زوايا الخمول إلى أوج استقامة لطائفك وأنقل أنفسنا من مراكز عكس الصعود إلى أشرف منازل السعود وأما قول بعضهم وينسب إلى ذي النون المصري المحبة أرق بلا رقاد وجسم بلا فؤاد وتهتك في العباد وتشتت عن البلاد فتعريف بصورة الحالة الراهنة من المحبة بعد قطع الطرق فإن الأرق الذي هو السهر من الفكر في الأمور الطارئة على النفس لا يكون إلا بعد تمكن تلك الأمور في الذهن وإن الجسم لا يكون بلا فؤاد إلا إذا فني فهي كناية عن عدم الالتفات إلى ما من شأنه أن يدرك القلب مما سوى الموجود المطلق بقرينة المقام وفيه تكلف وخلط لحالة المجانين بأحوال المحبين وباقي الكلام ظاهر وعندي أن المحبة ميل نفساني إلى المراد يعضده الجزم بالاعتقاد ورؤية ما سوي المطلوب من الفساد وفي الدين ارتداد وإليه أشار عارف الوقت والحقيقة وسلطان عشاق الخليقة بقوله:
ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهواً قضيت بردتي