للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم اشتهر أمرهما، فلما شب الغلام طلب الترهب فأجابه أهله بعد جهد إلى دير زنكي وأقام به، وكان سعيد يأتيه ويجلس معه فكره الرهبان ذلك وتوعدوا الغلام بالخروج من الدير فمنعة، أي صارت الرهبان تغلب باب الدير في وجه سعيد إذا أتى.

فلما أيس مضى فأحرق داره وثيابه وخرج عارياً ينشد الأشعار ويطوف بالدير ويبيت في ظله وأن الصنوبري أتاه يوماً وقد طال شعره وتشوهت خلقته فعنفه. فقال يا أبا بكر ألا ترى إلى هذا الطائر الذي على شرفة الدير قلت نعم. قال لي اسأله حمل رسالتي إلى عيسى فأبى ثم قال هل عندك لوح قلت نعم، فدفعته إليه فكتب:

بدينك يا حمامة دير زنكي ... وبالانجيل عندك والصليب

قفي وتحملي مني سلاماً ... إلى قمر على غصن رطيب

حماه جماعة الرهبان عني ... فقلي ما يقرّ من الوجيب

وقالوا رابنا إلمام سعد ... ولا والله ما أنا بالمريب

وقولي سعدك المسكين يشكو ... لهيب جوى أحر من اللهيب

فصله بنظرة لك من بعيد ... إذا ما كنت تمنع من قريب

وإن أك مت فاكتب حول قبري ... محب مات من هجر الحبيب

رقيب واحد تنغيص عيش ... فكيف بمن له الفا رقيب

ولم يزل كذلك حتى وجد عند الدير ميتاً فأراد العامل يومئذ وهو العباس بن وكيع البطش بالرهبان وحرق الغلام فافتدوه بمائة ألف درهم وصار الغلام إذا دخل المدينة لزيارة أهله تضربه الصبيان بالأحجار ويقولون له يا قاتل سعيد فانتقل إلى دير سمعان.

ومنهم شرف العلاء علق غلاماً نصرانياً فلبس المسوح لأجله وتبعه إلى الكنائس والبيع، وهام به فبلغ ذلك الظاهر بن أيوب فاستحضره، فلما دخل عليه تلقاه بقدح من خمر فشربه وأنشد:

جمعت بالكأس شملي ... الله يجمع شملك

بحق رأسك دعني ... حتى أقبل نعلك

وصار على ذلك هائماً حتى مات.

ومنهم ما أخرجه ابن الجوزي عن سعيد قال كنت بخان التجار بالبصرة إذا بغلام يصيح وفي يده مدية فاجتمع الناس إليه فأنشد:

يوم الفراق من القيامة أطول ... والموت من ألم التفرق أجمل

قالوا الرحيل فقلت لست براحل ... لكن مهجتي التي تترحل

ثم بقر بطن بمديته فسألته عنه، فقيل عشق غلاماً لبعض الملوك فحجب عنه يوماً واحداً ففعل هذا.

ومنهم ما حكاه الثوري في روضة القلوب قال كان بحمص مؤدب يقال له ابن الجوزي عشق غلاماً وكلف به، فلما علم أبوه بذلك نقله إلى مؤدب آخر عدو له فضعف واشتد غمه، فكتب إلى أبي الغلام يستعطفه فأجابه بأنه إن لم يرجع رفع أمره إلى الحاكم فتغير من وقته وتقايى الدم، وحمل إلى بيته وجاءه الطبيب فأخبر أن كبده تفطرت فمات في الرابع.

ومنهم ما حكاه في ديوان الصبابة وهو نظير العشق المسلسل السابق في الباب الثاني قال عشق شاب بدمشق غلاماً، فلما اشتد به وجده قتله فحمل إلى الحاكم فأنكر فهدد بالضرب، فجاء شاب كان يعشقه فقال إن هذا لم يقتل الغلام وإنما أنا قتلته فكتبوا عليه ذلك وخرجوا ليقتلوه فحدث الحاكم بباطن القصة وكان متأدباً فأمسك عن قتله وحبسه لينظر فعزل بعد أيام وكان أول ما حكم الحاكم الجديد أن شنق الشاب المذكور وقال شهاب الدين الحاجبي، كان شاباً لطيفاً جيد القريحه ذا نثر ونظم من العجائب الدالة على أن له اليد الطولى في الأدب، وكان من أولاد الجند عشق شاباً من أولاد الحسينية وأفرط في حبه حتى كان لا يصبر عنه ساعة، فمرض الشاب وانقطع فمرض الحاجبي لمرضه فدخل أصحابه عليه ليعودوه، فقال أريد من يوصل هذه الدراهم إلى فلان يعني صاحبه فقيل له قد مات فتغير من وقته واختلط عقله وجعل يقول قد مات، ثم قال احملوني من هنا وألح عليهم فأخذوه من حارة بهاء الدين إلى قناطر السباع فمات بها من يومه والتقت جنازته وجنازة محبوبه فصلى عليهما معاً، ومن شعره:

ملأت فؤادي من محبة شادن ... أميل إليه وهو كالظبي رائع

وقلت لقلبي قم لنعشق شادناً ... سواه فقال القلب ما أنا صانع

ومنها:

إن السيوف كلها ... قاطعة إذا انجلت

إلا سيوف لحظه ... إذا تصدّت قتلت

ومنها:

<<  <   >  >>