حرق بها جسدي وكل جوارحي ... وأشفق على قلبي فإنك فيه
فحمله إلى بيته ولم يفارقه بعدها وساق الحجازي في روض الآداب الحكاية عن الخياط الدمشقي.
ومنهم البحتري المشهور كان يهوى غلاماً اسمه نسيم فاشتراه حين اشتد به بلاؤه. فلما اشتهر حاله مازحه أبو الفضل يوماً وقال هل تبيعه قال لا قال خذ فيه ألف دينار فأبى وكان لا يساوي أكثر من مائة فقال خذ الفين فقال أحضرهما فأحضرهما واشتراه ومضى به فلم يلبث البحتري أكثر من يوم حتى ذهب عقله وأكثر التردد إلى أبي الفضل فلم يجبه وزاد به الوجد فكتب إليه.
أبا الفضل في تسع وتسعين نعجة ... غني لك عن ظبي بساحتنا فرد
أتأخذه مني وقد أخذ الهوى ... فؤادي له فيما أسرّ وما أبدى
وتغدو عليه صبوتي وصبابتي ... ولم يعده وجدي ولم يأله جهدي
وقلت اسل عنه فالمنية دونه ... وكيف بسلوان الظمآن عن الورد
فقال أبيعك إيهاه بجميع ما تملك في سائر البلاد فقال افعل فباعه بذلك فلما أصبح أقاله وقال إياك وهجر الأحرار فإن لهم مكائد.
ومنهم ما حكى عن الصاحب بدر الدين وزيز اليمن أنه كان له أخ جميل فاختار له معلماً ذا هيبة ووقار وأدب فكان يعلمه في بيته فامتحن الشيخ بحب الغلام وزاد به الحال فشكا يوماً إلى الغلام أمره فقال ما أصنع وأخي لا يفارقني ليلاً ولا نهاراً فقال الشيخ إن داري ملاصقة لحائطكم فإذا كان الليل أتناولك فتجلس معي لحظة لطيفة ثم تعود فأجاب فلما كان الليل أظهر الشاب أن نائم فنام أخوه ففتح باب النافذ إلى الحائط فوجد الشيخ واقفاً فأخذه ومضى فرآه قد هيأ مجلساً لطيفاً ما بين فرش وسماط ومشروب ومشموم فجلسا يتعاطيان الكأس وكانت ليلة البدر وأفاق الوزير فلم ير أخاه ورأى الباب مفتوحاً فاطلع فرآهما على تلك الحالة والكأس في يد الشيخ وهو ينشد:
سقاني شربة من خمر فيه ... وحيا بالعذار وما يليه
وبات معانقي خد الخد ... مليح في الأنام بلا شبيه
وبات البدر مطلعاً علينا ... سلوه لا ينم على أخيه
فكان من لطفه أن قال ولله لا أنم عليكما وانصرف. وذكر الحجازي بذكر هذا الاتفاق مناسبة لطيفة وذلك أن شخصاً كان يهوى غلاماً فمات فجلس يبكيه فطلع البدر فنظر إليه فلم يقدر أن يملأ عينه منه فأنشد:
شقيقك غيب في لحده ... وتطلع يا بدر من بعده
فهلا خسفت وكان الخسوف ... لباس الحداد على فقده
فخسف من وقته.
ومنهم الشيخ مهذب الدين بن منير الطرابلسي وكان أديباً ظريفاً عارفاً بالشعر والأدب وكان شيعياً وكان السيد المرتضى الموسوي نقيب الأشراف بالعراق والشام وغالب الممالك وكان بينه وبين مهذب الدين مودة قال ابن سعد في الطبقات لأن السيد كان رئيس أهل هذا المذهب وغيرهم وكان مهذب الدين من أجلاء طرابلس فبعث إلى الشريف بتحف مع عبد أسود فأرسل الشريف يعاتبه في ذلك وكان معروفاً بالشهامة فمما قال له أما رأيت شراً من السواد حتى ترسله إلينا وحكى قاضي القضاة ابن البراج أن مهذب الدين لم يرسل إلى الشريف إلا العبد فقط فكتب إليه أما بعد فلو علمت عدداً أقل من الواحد أو لوناً أشر من السواد لبعثت به إلينا والسلام وكان مهذب الدين يهوى مملوكاً له اسمه تتر وكان لا يفارقه في نوم ولا يقظة وكان إذا اشتد غمه أو رمى بمحنة نظر إليه فزال ما به فحلف لا يرسل إلى الشريف الهدايا إلا مع أعز الناس عنده فجهزها مع مملوكه وأخذ يقاسي مشاق فرقته.
فلما المملوك إلى الشريف توهم أنه من جملة الهدايا تعويضاً من ذنب العبد فأمسكه وطال الأمر فلم ير ما ينكي به الشريف ويبعثه على ارسال المملوك إلا إظهار التورع عن التشيع والدخول في مذهب أهل السنة وأن دليل ذلك أمر عظيم أخرجه عن العقل حتى فارق مذهبه فأرسل إليه بهذه القصيدة يذكر فيها وجده بالمملوك وخروجه من المذهب وتلبسه بالتستر وهي
عذبت طرفي بالسهر ... وأذبت قلبي بالفكر
ومزجت صفو مودتي ... من بعد بعدك بالكدر
ومنحت جثماني الضني ... وكحلت جفني بالسهر
وجفوت صباً ما له عن ... حسن وجهك مصطبر