قد أسلفت لك في صدر الكتاب كيفية ارتباط العالمين في التكاليف وتداخل اللطيف في الكثير واختلاف القوابل والفواعل، وقد رؤي استعداد كل لصاعد أو نازل، وأن العشق سر يودعه الله في الأرواح عند صفائها وسهولة انقيادها، ثم يختلف باختلاف البواعث والدواعي وميل النفوس بحسب مرادها فعلى هذا لا يخص نوعاً دون نوع من أحد الأجناس كما ترشد إليه أدلة التجربة والقياس، غير أنه مختلف الرتب كما لا يخفى على ذوي الأدب، وقد صح كما سبق أن الإنسان أفضل الموجودات لعلمه بأحكام الأحوال المختلفات فلذلك كان واسطة نظام هذا الشأن ثم ما يليه الأقرب فالأقرب من أنواع الحيوان حتى ينتهي القول إلى الأجرام العنصرية وما بينهما وبين الطبقات السماوية وحيث أنهينا الكلام في هذا المقام على ما يتعلق بالانسان فلنبين كيفية دخول العشق في باقي أنواع الأعيان فنظم هذا النوع في خمسة أصناف.
الصنف الأول في الطيور هي ألطف الحيوان مزاجاً لانحلال كثيفها بخرق الهوا وذهاب فضلاتها في نحو الريش، فلذلك داخلها التألم بالنوى. حكى الحافظ عن بعض الثقات أنه تفرد في معبد منقطع فوجد فيه حمامتين يبيتان فإذا برق الفجر ذهبتا فلا يأتيان إلى الليل، قال وكنت أشهد إحداهما تتخلف فتأتيها الأخرى بقوتها وداما على ذلك مدة.
فلما كان يوم من الأيام خرجتا فإذا بباشق انقض فأخذ الواحدة، فرأيت الأخرى تتبعه حتى غاب وأيست فعادت إلى المبيت وفي ريش فلقد رأيتها تتميز ريش المخطوفة حتى جمعته وجعلت تضرب بجناحها الأرض وتتمرغ على الريش وتضرب نفسها حتى نتفت ما أمكنها من ريش نفسها فقدمت لها أكلاً وماء، فلم تلتفت لشيء. فلما طلع الصبح رأيتها ميتة والريش في فمها.
ورأيت في كتاب لا أعلم مؤلفه سماه لطائف الأسرار وكيفية جريان الأقدار، طالعته في سنة تسع وخمسين ولم يكن لي إذ ذاك اعتناء بهذه الأشياء، أن غراباً كان يأوي إلى حائط فيقيم به فجاء يوماً فوجد حية قد استولت على محله فذهب فجاء بحجر صغير فرماه عليها فماتت، فقال من رآه أنه رمى به، وأخذ الحجر فتبعته فمضى حتى ألقاه في عش خطاف ثم صار يأخذ الماء والأكل فيمضي بهما إلى أفراخ الخطاف مدة طويلة ولم أشعر يوماً إلا وقد أقبل ومعه اثنان من الخطاطيف فباتا معه ودام على ذلك أياماً فبينا أنا يوماً إذا بالواحد منهما سقط فنزل الغراب فحمله فسقط فحمله عشر مرات فلم يستقر ساعة حتى رأيت الغراب يمزق نفسه حتى مات فقمت إلى العش فرأيت الخطاف ميتاً والآخر إلى جانبه يضطرب فمات وأنا أنظره قلت ولم أزل أفكر في هذا الحجر حتى وقفت على خواص الأحجار فرأيت أن داخل الصين أغواراً يسيل الماء فيها فينعقد حجراً إذا ترك مد وغزل وخيوطاً كالحرير تنسج منه أهل تلك البقعة ثياباً إذا اتسخت القيت في النار فيذهب ما فيها وأنه قبل أن ينغزل إذا أخذ نفع من اليرقان والحصى وسائر السموم وأنه يقتل الحيات بمجرد الرؤية وحذاق الحكماء تعمد إلى أعشاش الخطاطيف فتدهن فراخها بالزعفران فتظن أمهاتها أن اليرقان اعتراها فتمضي إلى أماكن هذه الأحجار فتأتي بها فتأخذه الحكماء فسبحان من ألهم كل شيء رشده.
وفي الكتاب المذكور أن رجلاً اشترى زوج بط، فلما ذبح الواحد جعل الآخر يضطرب تحت المكبة حتى رفعت عنه فجاء إلى الدم فلم يزل يتمرغ فيه حتى مات.
وقالوا أن أوفى الطيور في المحبة القمري والشفني أعني الفاخت وأنه إذا مات أحد الزوجين تعذب الآخر فلم يأنس حتى يموت، وكثيراً ما سمعنا عن البلبل والشحرور الحنين إلى الغناء والملاهي والأصوات الحسنة وأن بعض الطيور نزل على يد بعض الوعاظ حتى مات.
وحكى عن سفيان أن بلبلاً كان لولده وأنه أقام يرعى ويأتي البيت حتى قيل أنه مضى مع الناس يوم موته إلى القبر ورجع فاضطرب حتى مات.
وأما قصه الزاغ فمشهورة جداً وهي أن السعدي قال وجه إلي يحيى بن أكثم بالمثلثة، فدخلت وإذا عن يمنه قمطر جلد يعني قفصاً، فقال اكشفه فكشفته، فخرج شخص نصفه الأعلى انسان والأسفل زاغ، فقال لي كلمه فأستسميته فأنشد:
أنا الزاغ أبو عجوه ... أنا ابن الليث واللبوه
أحب الراح والريحا ... ن والنشوة والقهوه
فلا عدوان لي يخشى ... ولا يحذر لي سطوه
ولي أشياء تستظر - ف يوم العرس والدعوه