وعن ذي النون المصري قال بينما أنا أسير على جانب البحر في الليل وإذا أنا بجارية عليها أطمار شعر وهي ناحلة ذابلة فدنوت منها لسماع ما تقول وإذا هي متصلة الأحزان بالأشجان وقد عصفت الرياح واضطربت الأمواج وظهرت الحيتان فصرخت وسقطت إلى الأرض فأفاقت وهي تقول سيدي لك تقترب المتقربون في الخلوات ولعظمتك سبحت الحيتان في البحار الزاخرات ولجلال قدسك تصافقت الأمواج المتلاطمات أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار والفلك الدوار والبحر الزخار والقمر النوار والنجم الزهار وكل شيء عندك بمقدار لأنك العلي القهار وأنشدت:
أحبك حبين حب الوداد ... وحباً لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى ... فحب شغلت به عن سواك
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك للحجب حتى أراك
فما الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاك
ثم شهقت شهقة فارقت الدنيا فوقفت متعجباً وإذا بنسوة على أحسن ما يكون من الحالات قد أقبلن فاحتملنها ثم غبن وأقبلن بها قد جهزت فقدمنني للصلاة وهن ورائي فلما فرغت مضين بها.
قال المختصر عن مغلطاي رأيت غير ما مرة شيخاً مغربياً يحمل على ظهره الخضر من باب زويلة إلى الكتبيين ويكثر من إنشاد شعر بلا وزن مضمونه أن الحاكم أخذ ماله المتروك عن والده وأوراقاً كثيرة منها هذا الشعر وأنه استمع ليلة المحدث في سيرة البطال وقد ذكر أن جماعة قتلوا في الجهاد فقال المغربي للمحدث وفيم قتل هؤلاء قال في سبيل الله قال المغربي وأنا أيضاً أموت في سبيل الله فقال له المحدث افعل فتمدد إلى جانبهم فحرك فإذا هو ميت.
وعن أبي الحسين أحمد بن أبي الحواري قال مررت في الشام بقبة وإذا أنا بامرأة تدق الحائط فقلت لها ما بالك فقالت امرأة ضالة دلني على الطريق فقلت أي الطريق تريدين قالت طريق النجاة قلت هيهات أن بيننا وبينه عقبات لا تقطع إلا بسير حثيث ونصح المعاملة وقطع العلائق الشاغله من أمور الدنيا والآخرة فقالت سبحان من أمسك عليك جوارحك فلم تنقطع وحفظ عليك فؤادك فلم ينصدع ثم خرت مغشياً عليها فقلت للنساء حركنها فإذا هي ميتة ووصيتها إلى جانبها أن كفنوني في أثوابي وخلوا ما بيني وبينه فإن كان لي عنده خير فهو أسعد لي وإلا فبعد النفسي.
وفي الأصل قيل كان بالموصل رجل نصراني يكنى أبا اسمعيل وأنه سمع يوماً قارئاً يقرأ وله أسلم في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون فبكى حتى غشي عليه ثم أسلم وصحب فنجا الموصلي فحدث عنه أنه نظر يوماً إلى الدخان يفور من المدينة فبكى وقال قد قرب الناس قربانهم فليت شعري ما قرباني وجعل يبكي حتى فارق الدنيا.
هذا ما قرره من أول الباب إلى هنا وفي كل نظر وذلك أنه عقد الباب كله لعشاق الله ثم ذكر فصلاً لمن مات بذلك على أنه قد ذكر قبل الفصل من مات وبعده من لم يمت بآخر وقال أنه لعشاق الحور العين وقد أمطنا ما يتوقف فيه النظر حيث لم نذكر إلا ما يظهر فيه ظرف المناسبة ومن هنا إلى آخر الباب لم يخالف أوله فلا فائدة في الفصل فتأمل.
عن منصور بن عمار قال بينا أنا في السياحة إذ مررت بخدم وقصر ملكي لأتمكن الإحاطة بوصفه فهممت أن أدخله فانتهروني فلم أبالي بهم ودخلت فإذا أنا بشاب في أرفع طبقات الجمال والملابس وقد استحضر صبية تناسبه فلما رآني هم بقتلي فقلت أنا طبيب وقد رأيت فيك داء فقال وما هو قلت ميلك إلى الفاني وحبك ما لا يبقى وغفلتك عما عند الله ثم وصفت له الجنة والنار وما فيهما فتجرد من وقته وكان ملك البصرة فلما خرجنا وقد زال ما في القصر من البهجة تعلقت به الصبية وقالت على من تتركني ثم تجردت وخرجا هائمين فلما كان بعد عام وأنا في الطواف إذا أنابه يتضرع وقد أخلقته العبادة حتى لم أعرفه إلى أن قال لي أما تعرفني يا طبيب ثم ذكرني بالحالة ثم قال لي هل لك أن تنظر إلى نسوان يعني الصبية قلت نعم فأخذ بيدي حتى أوقفني عليها فلما رأتني قالت مرحباً أيها الطبيب ثم شهقت شهقة فارقت الدنيا فقال الرجل إني على أثرها فلا تبرح ثم نظر إليها وخر ميتاً.