للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عشية لا عفراء منك بعيدة ... فتسلو ولا عفراء منك قريب

بنا من جوى الأحزان والبعد لوعة ... تكاد له نفس الشفيق تذوب

ولكنما أبقى حشاشة مقول ... على ما به عود هناك صليب

وما عجبي موت المحبين في الهوى ... ولكن بقاء العاشقين عجيب

وقيل أنه لم ينشد في ذلك الموقف سوى البيتين الأولين، وأما قوله: فقلت لعراف اليمامة إلى قوله وما عفراء منك قريب. فإنه أنشده حين أتى به إلى الطبيب وسبب ذلك أنه حين وصل الحي أخذه الهذيان والقلق وأقام أياماً لا يتناول قوتاً حتى شفت عظامه ولم يخبر بسره أحداً، وأنه حمل ليلة إلى فضاء ليتنزه به، فسمع رجلاً يقول لوالده على أي ناقة حملت الشعب، يعني قرب الماء، فقال على العفراء، فأغمي عليه ساعة ثم قام مخبولاً وكان باليمامة عراف يعني كاهناً له قرين من الجن يعرفه الأخبار ودواء بعض الأدواء وكان يقال له رياح بن راشد وكنيته أبو كحلاء مولى لبني يشكر فحملوه إليه فلما رآه أخذ يعالجه بأنواع العلاج والرقي والصب عليه وأصل ذلك أن العرب كانت إذا تخليت بشخص سحراً جعلت على رأسه طبقاً فيه ماء ثم أذابت الرصاص وسكبته في ذلك الماء ودفنته في فضاء من الأرض فيزول عن الشخص ما به، وإن الكاهن فعل بعروة ذلك مراراً فلما ينجع، أخبرهم أن ما به ليس إلا من العشق.

وقيل أنه عرف ذلك من يوم قدومهم به، فلما أحس باليأس أنشد: فقلت لعراف اليمامة الأبيات فحمل إلى عراف آخر بنجد ففعل به مثل ذلك فأنشد الأبيات الآتية في نونيته وهي قوله جعلت لعراف اليمامة. وأما قوله بنا من جوى الأحزان ويروي وبي من جوى الأحزان فعلى الأصح كما في النزهة أنه من هذا الشعر.

وقيل أنشده حين حمل إلى ابن عباس ليدعو له بمكة وقد سلف أن صاحب القصة غيره وإن صحح ابن عساكر خلافه، ولما أيس من الشفاء تمرض بين أهله زماناً حتى شاع انتحاله في العرب مثلاً. وإن ابن أبي عتيق مر به فرأى أمه تلاطف غلاماً كالخيال فسألها عن شأنه، فقالت هو عروة فسألها نضوا الغطاء عنه، فلما شاهده قضي عجباً ثم استنشده فأنشد جعلت لعراف اليمامة حكمه الأبيات ولما علم الضجر من أهله، قال لهم احتملوني إلى البلقاء فإني أرجو الشفاء.

فلما حل بها وجعل يسارق عفراء النظر في مظان مرورها، عاودته الصحة. فأقام كذلك إلى أن لقيه شخص من عذرة فسلم عليه. فلما أمسى دخل على زوج عفراء فقال له متى قدم هذا الكلب عليكم فقد فضحكم بكثرة ما يتشبب بكم فقال من قال عروة قال أنت أحق بما وصفته به والله ما علمت بقدومه وكان زوج عفراء موصوفاً بالسيادة ومحاسن الأخلاق في قومه. فلما أصبح جعل يتصفح الأمكنة حتى لقي عروة فعاتبه وأقسم بالمحرجات أنه لا ينزل إلا عنده فوعده ذلك، فذهب مطمئناً وأن عروة عزم أن لا يبيت الليل، وقد علم به فخرج فعاوده المرض فتوفي بوادي القرى، دون منازل قومه.

وقيل وصلها لرواية ابن العاص، قال استعملني عمر رضي الله عنه في جباية صدقات العذريين فبينما أنا يوماً بإزاء بيت إذ نظرت امرأة عند كسر البيت وإلى جانبها شخص لم تبق إلا رسومه فجلست أنظر إليه فتموج ساعة ثم خفق خفقة فارق الحياة فقلت لها من الرجل قالت عروة فقلت كأنه قضى فقالت نعم، ولما بلغ عفراء وفاته قالت لزوجها قد تعلم ما بينك وبيني وبين الرجل من الرحم وما عنده من الوجد وإن ذلك على الحسن الجميل فهل تأذن لي أن أخرج إلى قبره فأندبه فقد بلغني أنه قضي، قال ذلك إليك فخرجت حتى أتت قبره فتمرغت عليه وبكت طويلاً ثم أنشدت:

ألا أيها الركب المحثون ويحكم ... بحق نعيتم عروة بن حزام

فإن كان حقاً ما تقولون فاعلموا ... بأن قد نعيتم بدر كل ظلام

فلا لقي الفتيان بعدك راحة ... ولا رجعوا من غيبة بسلام

ولا وضعت انثى تماماً بمثله ... ولا فرحت من بعده بغلام

ولا لابلغتم حيث وجهتم له ... وغصتم لذات كل طعام

وفي كتاب النزهة لابن داود أن ركباً شاهدوا موته، فلما قدموا الحي أنشد رجل منهم عند بيت عروة:

ألا أيها القصر المغفل أهله ... بحق نعينا عروة بن حزام

<<  <   >  >>