وكانت مي جارية إلى القصر ما هي سمراء بدينة إلا أن في كلامها عذوبة وفي طرفها تغزل. قال في الظرائف أن سبب اعتلاقه بها أنه مر يوماً بالحي وقد أدركه الأوام فنظر إلى بيت قد شرع رواقه وارتفعت أطباقه وعلا عموده وأطنابه ومدت أوتاده وأسبابه، فقصده حتى وقف بإزائه، وذا هو بامرأة تتمشط حاسرة الرأس وقد أسبلت شعرها كأنه عثاكيل النخل، ووجهها يشف من خلاله فناداها هل من اداوة تبرد الغليل، فأبرزت إليه ماء قد شيب بلبن، فشرب ثم ناشدته الراحة، وقدمت إليه طعاماً فأكل ولم تزل تنادمه وهو يعجب بها ويحترك لها قلبه إلى أن انصرف بعد بياض النهر وقد علق من قلبه بحبها الأعج عجز عن إطفائه وغرام كل عن إخفائه فجعل يعاودها الزيارة، فقيل له في تقليل ذلك وأن بلادها بعيدة عن بلاده وأن ذلك يوجب له نصباً ومشقة فأنشد:
وكنت إذا ما جئت مياً أزورها ... أرى الأرض تطوي لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
وجلس قوم يتحادثون فأفضوا إلى حديث ذي الرمة وفيهم عقبة بن مالك الفزاري وهو يومئذ شيخ قد جاوز المائة فقال منى خذوا خبره أتاني يوماً، فقال إن حي مية خلوف فهل تسعدني في الزيارة فركبنا حتى أتيناها، فلما نظر النساء إلى ذي الرمه عرفنه فجئن حتى جلس عنده وتفاوضوا في الحديث فقالت ظريفة من النساء أسمعنا يا ذا الرمة ما قلت فالتفت إلي وقال لي قل فأنشدت قوله:
وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
فلما انتهيت إلى قوله:
نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرا النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأسبلت العينان والقلب كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكى وامق حال الفراق ولم تخل ... حوائلها أسراره ومعاتبه
هو الالف قد حان الفراق ولم تحل ... مخاولها أسراره ومقانبه
قال الظريفة لكن اليوم فلتحل ثم مضيت فلما انتهيت إلى قوله:
وقد حلفت الله مية ما الذي ... أحدثها إلا الذين أنا كاذبه
إذاً فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدوّ أحاربه
قالت مي ويحك يا ذا الرمة خف عواقب الله عز وجل ثم مضيت حتى انتهيت إلى قوله:
إذا سرحت من حب مي سوارح ... على القلب أمته جميعاً غواربه
فقالت الظريفة قتلته قتلتك الله، فقالت مية ما أصحه وهنيئاً له قال فتنفس ذو الرمة تنفيسة كاد حرها يذهب بلحيته ثم مضيب حتى انتهت إلى قوله:
إذا نازعتك القول مية أو بدا ... لك الوجه منها أو نضى الدرع سالبه
فيا لك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومرحوق تعالى شاربه
وفي رواية القالي إذا راجعتك بدل إذا نازعتك فقالت الظريفة هذا القول قد تتوزع والوجه بدافن لنا بان ينضى الدرع سالبه فقالت مي ماذا تريدين وتضاحكا فقالت الظريفة إن لهذين لشأناً فقم بنا فقمت وجلست بحيث أراهما فتعاتبا طويلاً ولن يبرح من هكانه ولم أسمع منهما غير أن قالت كذبت والله لم أعلم علام كذبته ثم جاءني ومعه قارورة دهن قد اتحفته بها فقال لي شأنك وهي ثم قال وهذا قلائد قد أعطتنيها فوالله لا قلدتها بعيراً وعقدها في سيفه وانصرفنا، فلما ظعن الحي جاءني فقال امض بنا نودع الآثار فجئنا حتى وقفنا على أطلال مية فأنشد:
ألا فاسلمي يا دارمي على البلا ... ولا زال منها بجرعائك القطر
وإن لم تكوني غير شام بقفرة ... تجر بها الأذيال صيفية كدر
وانفضحت عيناه بالعبرة فقلت مه فقال إني جلد وإن كان مني ما ترى ثم انصرفنا فوالله ما رأيت أشد صبابة ولا أحسن صبراً منه وكان آخر العهد به وله أشعار كثيرة فمن ألطفها القصيدة الحائية التي أولها:
أمنزلتي مي سلام عليكما ... على النأي والنأي بودّ وينصح
ومنها:
ذكرتك إذ مرت بنا أم شادن ... أمام المطايا تشرئب وتنصح
من المؤلفات الرمل أدماً بحرّة ... شعاع الضحى في متنها يتوضح
رأينا كأنا عامدون لصيدها ... ضحى فهي تنبو تارة وتزحزح