للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال بعضهم العشق مجهول لا يعرف ومعروف لا يجهل هزله جد وجده هزل وهذا في الحقيقة تعريف بالعوارض غير اللازمة واشارات إلى اختلاف الحالات الكائنة عنه فإن الجهل يعتري العشاق عند تزايد الحب فيوجب الحيرة في الأمر وعكسه عند انفصاله عن المخيلة والهزل مباديه والجد تمكنه ونحوه ما أجاب ابن أكتم به وقد سأله المأمون ما العشق فقال سوانح للمرء تؤثرها النفس ويهيم بها القلب فقال له ثمامة إنما شأنك أن تفتي في مسئلة طلاق أو محرم فقال المأمون قل يا ثمامة فقال العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب مالك وملك قاهر مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جائرة ملك الأبدان وأرواحها والقلوب وخواطرها والعيون ونواظرها والعقول وآراءها وأعطى عنان طاعتها وقياد ملكها وقوى تصرفها توارى على الأبصار مدخله وغمض في القلوب ملكه فقال له المأمون أحسنت يا ثمامة وأمر له بألف دينار.

وفي رواية أنه قال له إذا امتزجت جواهر النفس بوصل المشاكلة نتجت لمح نور ساطع تستضيء به بواصر العقل ويتصور من ذلك اللوامح نور خاص بالنفس متصل بجواهرها يسعى عشقاً أقول وهذا تعريف له بحقائقه ومواده الذاتية والأول تعريف بالعوارض والغايات وهذا بالحكمة أليق وإيضاحه نور البصر يوصل ما يدركه إلى المشترك وهو إلى الواهمة حتى يرتسم في القوة العاقلة المعروفة بالنفس الناطقة فقوله بوصل المشاكلة يريدان النظر الواقع عن تأمل عارف بتأمل المحاسن ودقائق لطيف الشمائل يوجب ارتسام أنوار في النفس تشبه الجواهر المجردة تزدوج بالنفس لاتحاد بينهما في اللطف والصفاء وهذا دليل على أن العشق لا يتصور من جاهل غليظ الطبع ووصفه بعض البلغاء بأنه فضيلة تنتج الحيلة وتشجع الجبان وتسخي كف البخيل وتصفي ذهن الغبي وتطلق بالشعر لسان الأعجم وتبعث حزم العاجز الضعيف وهو عزيز يذل له عز الملوك وتضرع له صولة الشجاع وهو داعية للأدب وأول باب تفتق به الأذهان والفطن ويستخرج به دقائق المكايد والحيل وإليه تستريح الهمم وتسكن به فواتر الأخلاق والشيم يمتع جليسه ويؤنس أليف وله سرور يجول في النفوس وفرح يسكن في القلوب وقال سعيد بن سالم وقد قيل له أن ابنك شرع في الرقيق من الشعر فقال دعوه ينظف ويلطف ويظرف يعني أنه يطلع من رقيق العشر على أسرار البلغاء وليس أرق من الغزل ولا أدق لما فيه من تعلق العشق ومدح المحبوب وذلك يؤدي إلى ما ذكر فإن العاشق إذا علم ما يقربه إلى محبوبه بذلك فيه إمكانه والظرافة واللطافة والنظافة أعظم مقرب فكأنه قال دعوه لعله يتصف بالعشق ولولا الجمل على ذلك لم يصلح سوق هذا هنا لأنه على ظاهره ترغيب في مطلب الشعر فليتأمل ونقل ابن خلكان في ترجمة العلاف ما ملخصه أن العشق جرعة من حياض الموت وبقعة من رياض الثكل لكنه لا يكون إلا عن أريحية في الطبع ولطافة في الشمائل وجود لا يتفق معه منع وميل لا ينفع فيه عذل وفي معنى شدة العشق أنشد المؤمل:

شق المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر

يكفي المحبين في الدنيا عذابهم ... والله لا عذبتهم بعدها سقر

وعرفه أرسطو بأنه جهل عارض صادف قلباً فارغاً دق عن الأفهام مسلكه وخفي عن الأبصار موضعه وحارت العقول في كيفية تمكنه غير ابتداء حركته وعظم سلطانه من القلب ثم يتغشى على سائر الأعضاء فيبدي الرعدة في الأطراف والصفرة في الأبدان واللجلجة في الكلام والضعف في الرأي والزلل والعثار حتى ينسب صاحبه إلى الجنون زادت إعرابية يذهب العقل وينحل الجسم ويهمل الدمع بحدوده مرور الأيام ولا تفسده بل لا تغيره إساءة المحبوب على الدوام ومن ثم قال الأصمعي وقد سأله الرشيد ما حقيقة العشق فقال أنه شيء يستغرق القلب في محاسن المحبوب ويذهله عن مساويه فيجد رائحة البصل من المحبوب أعظم من المسك والعنبر وتعاقب امرأتان من أهل المدينة فيا لهوى فقالت إحداهما تعذل الأخرى ذكروا في الحكمة لا تلم من أساء بك الظن إذا جعلت نفسك غرضاً للتهمة ومن لم يكن عوناً على نفسه من خصمه لم يكن عنده شيء من عقدة الرأي ومن قدم على الهوى وهو يعلم ما فيه من المتعبة سلط على نفسه لسان العذل وضيع الحزم فقالت المعدولة ليس الهوى إلى الرأي فيملكه ولا إلى العقل فيدركه أما سمعت قول الشاعر

<<  <   >  >>