للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التوابع والزوابع- وفكرتها ومنهجها من إحدى مقامات بديع الزمان -المقامة الإبليسية- بل انتفع بمقامات أخرى غير المقامة الإبليسية، كالمقامة المضيرية، والجاحظية، والحمدانية والبغدادية، انتفع بالفكرة وقلد الأسلوب تقليدًا ولكنه أي ابن شهيد لم ينكر على بديع الزمان فضله وحسب، بل حمل عليه وحاول أن ينال من قدره في "توابعه وزوابعه" وهو خلق بعيد عن روح الأمانة العلمية تمنينا لو أن رجلًا عظيمًا كابن عبد ربه قد نأى بنفسه عنه، ورحم الله الحريري العالم العظيم حين استهل مقاماته بذكر الفضل ونسبته إلى صاحبه المبتكر الأول لفن المقامات ومنشئها بديع الزمان الهمذاني.

ثانيًا: ذكر أكثر من مؤرخ من مؤرخي ابن عبد ربه أن الصاحب بن عباد سمع عن العقد الفريد فما زال يسعى في طلبه حتى حصل على نسخة منه وما إن اطلع عليها حتى قال: هذه بضاعتنا ردت إلينا، فقد ظن أن الكتاب يشتمل على أخبار الأندلس وأدبها فإذا به يشتمل على أخبار المشرق وأدبه.

إن الصاحب بن عباد كان معروفًا بالغلو في أحكامه، بل في أسجاعه، فقد اشتهر بالحرص على السجع في القول والكتابة، وهو صاحب السجعة المشهورة: أيها القاضي بقم، قد عزلناك فقم. فلما بلغ القاضي خبر عزله قال: والله ما عزلني إلا السجعة.

الصاحب إذا -وقد عرف بالمبالغة الشديدة- بالغ في الإقلال من شأن كتاب العقد الفريد، اللهم إلا إذا كان قد لاحظ على الكتاب ما لاحظناه نحن قبل قليل، وهو اغتصابه منهج عيون الأخبار، وما أظنه فطن إلى ذلك وإلا فما كان يفوته أن يذكر ذلك.

وأما عبارة هذه بضاعتنا ردت إلينا، فليس العلم بضاعة تمتلك أو سلعة تباع وتشترى وإنما العلم ملك للجميع، ولقد كان الأندلسي العالم على وعي بأن بلاده في حاجة إلى علم المشرق حيث لم يكن العلم وافرًا ناضجًا متألقًا إلا في المشرق، والأندلسيون محتاجون إلى هذا العلم في زمن ابن عبد ربه وبعد زمنه، وهذا أبو علي القالي يدخل الأندلس بعد وفاة ابن عبد ربه فلا يجد من العلم ما يؤدب به القوم إلا علم المشرق وأدبه فيملي دروسه التي جمعت في كتاب مشهور كل الشهرة عرف "بالأمالي" حسبما سبق القول أكثر من مرة، وهو من عيون الكتب في العربية ولا بد أن الصاحب قد سمع به، وبامتداح العلماء له، ومع ذلك لم يقل في حقه كلمة تنال منه.

هذا والصاحب نفسه هو صاحب التمجيد الغالي لكتاب الأغاني للأصبهاني حسبما سوف نوضح في الفصل التالي، وقال عنه: إنه كان يستغني به عن مكتبة كاملة، مع أن الأغاني قد جمع بين الغث الموغل في التدني، والسمين النفيس، ولبس العقد كذلك، فالعقد يعتمد على العلم الجاد في معظمه، والأغاني يعتمد على القيان والغرائز بنسبة يمكن القول إنها أكثر

<<  <   >  >>