ندلف إلى لب الحديث عن كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز.
لقد عرف ابن المعتز عند طائفة من جمهرة الدارسين بأنه الشاعر المترف الملكي في أسلوبه ونهجه وتفكيره، وبناء صيغته ورسم صوره وانتقاء ألفاظه واختيار كلامه، وهذا صحيح كل الصحة، إلا أن لابن المعتز وجهًا آخر هو وجه الأديب العالم الناقد الذواقة الراوية الذي كان يتقمص شخصية العالم ويلبس لباس الوقار ويرتدي قميص التواضع عندما يعمد إلى كتابة الجد الخطير من الكتب أو القضايا، فهو حين يستهل كتابه طبقات الشعراء ويقدم له، يقول: أفقر العباد إلى الله عبد الله بن المعتز بالله المتوكل على الله ... إلخ. وآية ذلك الكتب الاثنا عشر التي ألفها وعددناها في صدر هذا الحديث والتي أشهرها دون شك كتاباه:"طبقات الشعراء" و "البديع" اللذان طبقت شهرتهما الآفاق، وهما بذلك جديران؛ لأنهما يعتبران نوعًا من الإنجاز العلمي الرائد الرفيع مما لا يفترض فيه أن ينجز مثل هذا العمل الرائع لسببين ظاهرين، السبب الأول أنه أمير أعد نفسه للملك والأمراء يعدون أنفسهم للملك بطريق الثقافة وليس بطريق التأليف، والملوك المؤلفون قلة نادرة لا تكاد تعي منهم ذاكرتي غير أبي الفدا ملك حماة صاحب كتاب التاريخ المعروف باسمه من المشارقة، والسبب الثاني أن ابن المعتز لم يعمر كما عمر غيره من عمالقة المؤلفين الذين لم تكن أعمارهم في المتوسط تحد بأقل من السبعين عامًا، وتمتد أحيانًا إلى المائة وما فوقها، لقد ولد العالم الشاعر الأمير الخليفة سنة ٢٤٧هـ وقتل ٢٩٦هـ فيكون قد عاش تسعة وأربعين عامًا هجريًّا، ولم يخل معظمها من اضطهاد وأذى على رغم كونه أميرًا مما اضطره إلى مصانعة من هم دونه مقامًا، وأقل منه رتبة فمدحهم بشعره وهنأهم في المناسبات السقيمة مثل ما فعل مع عبد الله بن عبد الله بن طاهر أو الوزراء من أبناء أسرة الوهبيين.
وإذن فحياة ابن المعتز مليئة بالبركة والسعة والعمق من ناحية الإنتاج الفكري والعلمي، كما كانت عريضة من حيث اللهو واقتناص اللذات.
وأما اسم الكتاب كاملا كما ذكره ابن المعتز، وسماه بنفسه فهو "طبقات الشعراء المتكلمين من الأدباء المتقدمين"١، على أن الذين عرضوا للكتاب بعد ذلك بالشرح أو التحقيق أسموه تارة "طبقات الشعراء المحدثين" وتارة أخرى أطلقوا عليه "طبقات الشعراء" وهو الاسم الذي سار عليه جمهرة الدارسين من بعد، وعرف به حتى الآن.
إن طبقات الشعراء هو ثالث كتاب كبير مشهور مطبوع بين أيدينا لهذا اللون من الدراسة بعد ابن سلام وابن قتيبة، وهو السادس بين الكتب المشهورة، ولكن لعبت يد الضياع ببعض