وتأمل الى إقدامه/ على أمتين عظيمتين من اهل التحصيل والعقل، قد أجمعوا على امر وسبقوه في الزمان، وهو اشد الناس حرصا على تالفهم وإجابتهم واستمالتهم، فأكذبهم وردهم، ولو كان متقوّلا لتهيّب ولم يقدم على ذلك خوفا من ان يكون الامر كما قالوا وكما ادّعوا فيبين كذبه ويرجع عنه من قد تبعه، لأن الانبياء يجوز ان يقتلوا ويصلبوا، بل قد قتل قوم منهم.
وأيضا، فليس في قتل المسيح طعن عليه ولا قدح في امره، وما به حاجة الى مخالفتهم في ذلك، بل قد كان ينبغي ان يكون الى تصديقهم في ذلك أحوج، ليكون تشنيعه على النصارى اقوى، لأنهم قد اعتقدوا فيه انه إله ورب وقد رأوه أسيرا مقهورا في يد عدوه ومصلوبا ومقتولا، ويزيد شناعته على اليهود لأنهم قد قتلوا نبيا آخر مضافا الى غيره من الانبياء الذين قد قتلوهم قبل المسيح. فتجنب صلّى الله عليه وسلم هذا كله مع الحاجة اليه، وقال: قد ادعوا أنهم قد علموا ذلك وليسوا به عالمين ولا متفقين، وما معهم فيه الا الظن فقال:
«وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ. وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ. وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً»«١» أي ليس ثمّ يقين ولا سكون نفس، تقول العرب في الخبر المتيقن قتلته علما وقتلته يقينا. ثم قال:«بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» أي صانه وعظمه ان تناله يد عدوه بالقتل والصلب، لأن الظن قد يصدق تارة، وقد تجتمع الجماعة الكبيرة فتصدق المخبر الواحد من طريق حسن الظن بخبره، ويكون قد صدق فيما أخبر، فيكونوا صادقين وإن لم يعلموا صدقه، وان ظنوا ان اعتقادهم لذلك علم. فانظر الى ذلك كيف بيّنه من كل وجه.