لهم الصلح فما أجابوا وهذا قدر عسكرهم، لا تقتلوهم وادفنوا هؤلاء الكلاب أحياء، استقلالا لهم. فلما قامت الحرب/ نزعوا برادع جمالهم يستخفون بها، وقدموا ابن ام مكتوم وهو أعمى ومعه رايتهم، فصاروا عنده كالضحكة، والطمع فيهم أشد، واحتقاره لهم أكثر. فلما رأى صبرهم تحير، حتى قال لجواسيسه: يا ويلكم، أيّ ناس هؤلاء، أما يملّون ما هم فيه، أما يطلبون الراحة، أما يشغلهم أكل. قيل: إنهم إذا قاموا من منامهم ابتدؤوا بأكلهم، قال:
وما يأكلون، قيل له: مع كل واحد منهم خشبة يأكلها، يعني بذلك السّواك، لأن الجاسوس كان يراهم يستاكون عند القيام من النوم فظن أن ذلك طعامهم، لأن الفرس والروم لا تعرف السّواك.
ولما قدمت منهزمة الروم على هرقل وهو بأنطاكية استعظم انهزامهم، وكان عنده أن المسلمين هم الذين ينهزمون، وأنه يصير إلى المدنية فيستأصلهم، فقال لهم: أخبروني ويلكم عن هؤلاء القوم الذين تقاتلونهم، أليسوا بشرا مثلكم، قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم، قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن، قال: فما لكم تنهزمون كلما لقيتموهم، فقال شيخ منهم: من أجل انهم يقومون بالليل ويصومون بالنهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون، ومن أجل أنّا نزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغضب ونظلم، ونأمر بما يسخط الله، وننهي عما يرضي الله، ونفسد في الأرض. قال: أنت صدقتني.
وكانت نصارى العرب بين تغلب وتنوخ وبلخ وغسان وغيرها من القبائل تعين الروم والفرس على المسلمين، وكانوا ينغمسون في المسلمين لأنهم عرب فيظنهم المسلمون منهم، فيرجعون بأخبارهم إلى الروم، فيحدثونهم عن عسكرهم، وعن أمرائهم ورؤسائهم، كشر حبيل بن حسنة، ومعاذ بن