وهذه كانت سيرة خلفائه وأعوانهم كبني مقرن، وأبي عبيدة، ومعاذ ابن جبل، وشرحبيل بن حسنة، وعتبة بن غزوان، وسعد بن أبي وقاص، وأمثالهم من السابقين والتابعين بإحسان، لا يحصون لكثرتهم. والذين رغبوا فيما أحلّه الله لهم وأباحهم إياه كعبد الرحمن بن عوف وأمثاله، فقد كانوا يبذلون وينفقون في سبيل الخير، ثم لا يعرفون من التواضع من/ عبيدهم ولا يفرق بينهم وبين عبيدهم وفقرائهم، فكانوا كما قد قيل فيهم لا يحوي رجاؤك ما حوت أيمانهم، ولا تسري همتك إلى حيث سرت أقدامهم، لم يزدهم الله رفعة وتشريفا إلا ازدادوا هيبة وإجلالا، ولا تسليطا وتمكينا إلا ازدادوا عن الدنيا عزوفا ومنها تقللا، ولا تقريبا واختصاصا إلا ازدادوا من رعيتهم قربا وبالمساكين رأفة وعليهم حدبا وبهم رحمة.
ولقد قال عبد الله بن سلام وغيره لأولئك الذين شغبوا على عثمان، كحرقوص بن زهير، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران «١» : يا قوم، إن سلطانكم يقوم بالدرة، وما سمعنا بسلطان يقوم بالدرة قبله، وإن قتلتموه لم يقم إلا بالسيف، لا تسلوا سيف الله عليكم، فو الله إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم، إن مدينتكم محفوفة بملائكة الله مذحلّها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإلى اليوم، والله لئن قتلتموه لتتركنها، فلا تطردوا جيرانكم من الملائكة.
وقد قلنا قبل هذا انما لم نجعل زهد رسول الله، صلّى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه دليلا على صحة الاسلام ونبوة النبي صلّى الله عليه وسلم فإن ذلك إنما يدل عليه ما قدّمنا من الأدلة وأمثاله، ولكن استدللنا بزهدهم على محبتهم لنبيّهم، وأن ظاهرهم كباطنهم، وسريرتهم كعلانيتهم، وعلى بصيرتهم في دينهم، وأنه لم يكن لنبي من الأنبياء عليهم السلام صحابة مثلهم، وأنهم خير أمة أخرجت للناس.
(١) انظر لتفصيل حادث مقتل عثمان رضي الله عنه، الطبري، أحداث سنة ٣٥ هـ.