حريقا، وأقبل صلّى الله عليه وسلم من تبوك، حتى إذا دنا من المدينة تلقاه عامة الذين تخلفوا عنه من المؤمنين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يكلمنّ رجل منهم ولا يجالس حتى آذن لكم، وأعرض عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وعن أخيه، وحتى إن المرأة لتعرض عن زوجها. فمكثوا أياما، ويجعلون يعتذرون إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالجهد، ويحلفون له، فرحمهم صلّى الله عليه وسلم واستغفر لهم. وقالت بنو سلمة لكعب بن مالك امش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاعتذر اليه وبايعه لعله يقبل منك، فأقبل معهم ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في المسجد يبايع، فسلم عليه فأعرض عنه، فقيل إن كعبا قال: لم تعرض عني يا رسول الله، فو الله ما نافقت ولا ارتبت ولا بدلت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: فما خلفك عني؟ قال:
أما إني لا أعتذر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعذر، لقد كنت شابا موسرا ولكن أصابني فتنة فتخلفت. فسمع مرارة بن ربيعة وهلال بن أمية بالذي قال كعب فقالا مثل قوله، فأعرض عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقاموا من عنده، فقالت بنو سلمة لكعب: والله ما أصبت ولا أحسنت ولو اعتذرت لقبل منك، فقال لهم كعب: والله لا أجمع اثنتين: أتخلف وأكذب وقد اطلع الله على ما في نفسي فقالت بنو سلمة: والله إنك لشاعر مفوه بليغ جرىء على الكلام، فقال كعب:
لن أجترىء على الكذب.
فمكث هؤلاء الثلاثة قريبا من شهرين لا يكلمهم أحد من/ المسلمين ولا يجالسهم، حتى أعرض عنهم نساؤهم، ووجلوا أشد الوجل، وخرجوا من أهاليهم إلى البرية، وطلبوا الفساطيط يأوون اليها بالليل ويتعبدون الله. وكتب جبلة بن الأيهم ملك غسان إلى كعب بن مالك أنه بلغنا أن صاحبك نبا بك وأقصاك هلم إلينا فإن لك متحولا ولا تقم على الهوان؛ فأقبل كعب بكتابه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال يا رسول الله: ما زال إعراضك عني حتى رغب فيّ