في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار القرون الماضية والأمم السالفة التي اشتمل عليها، أي ومن كان من العرب يكتب ويقرأ ويجالس الأحبار لم يدرك علم ما أخبر به من القرآن خصوصا عن المغيبات المستقبلة الدالة على صدقه، لوقوعها على ما أخبر به.
وقد أعجز الفصحاء البلغاء، أي لحسن تأليفه والتآم كلماته، بهرت العقول بلاغته، وظهرت على كل قول فصاحته، أحكمت آياته وفصلت كلماته، فحارت فيه عقولهم، وتبلدت فيه أحلامهم، وهم رجال النظم والنثر، وفرسان السجع والشعر.
وقد جاء على وصف مباين لأوصاف كلامهم النثر لأن نظمه لم يكن كنظم الرسائل والخطب ولا الأشعار وأسجاع الكهان وقد تحداهم ودعاهم إلى معارضته والإتيان بأقصر سورة منه، أي وهو دليل قاطع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل له ذلك إلا وهو واثق مستيقن أنهم لا يستطيعون ذلك، لكونه من عند الله، إذا يستحيل أن يقول صلى الله عليه وسلم ذلك وهو يعلم أنه الذي تولى نظمه ولم ينزل عليه من عند الله، إذ لا يأمن أن يكون في قومه من يعارضه وهم أهل فصاحة وشعر وخطابة قد بلغوا الدرجة العليا في البلاغة، وهو من جنس كلامهم، فيصير كذابا، ولو كان في استطاعة أحد منهم ذلك لما عدلوا عن ذلك إلى المحاربة التي فيها قتل صناديدهم ونهب أموالهم وسبى ذراريهم، أي لأن النفوس إذا قرعت بمثل هذا استفرغت الوسع في المعارضة، فهو ممتنع في نفسه عن المعارضة، خلافا لمن قال إنما لم تقع المعارضة منهم لأن الله تعالى صرفهم عنها مع وجود قدرتهم عليها، لأنه وإن كان صرفهم عنها فيه إعجاز لكن الإعجاز في الأول أكمل وأتم، وهو اللائق بعظيم فضل القرآن.
ومن ثم لما جاءه الوليد بن المغيرة وكان المقدم في قريش بلاغة وفصاحة، وكان يقال له ريحانة قريش كما تقدم، وقال له صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليّ، فقرأ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)[النّحل: الآية ٩٠] قال له أعده، فأعاد ذلك قال: والله إن له الحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. وفي رواية قرأ عليه حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ [غافر: الآيات ١- ٣] الآيات فانطلق حتى أتى منزل أهله بني مخزوم فقال: والله كلام محمد ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إلى آخر ما تقدم، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: قد صبأ الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلها، فقال أبو جهل لعنه الله: أنا أكفيكموه، فقعد على هيئة الحزين فمر به الوليد، فقال له: ما لي أراك كئيبا؟ قال: وما يمنعني أن أحزن، وهذه قريش قد جمعوا لك نفقة ليعينوك على أمرك، وزعموا أنك إنما زينت قول محمد لتصيب من فضل طعامه، فغضب الوليد وقال: أو ليس قد علمت قريش أني من أكثرهم مالا وولدا،