فصار صلى الله عليه وسلم يتغدى ويتعشى وحده في تلك المشربة، فجئت المشربة، فقلت لغلام أسود:
استأذن لعمر، فدخل الغلام فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع، فقال: كلمته وذكرتك له فصمت، فانصرفت، ثم غلبني ما أجد، فجئت، فقلت للغلام: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ فقال: ذكرتك له فصمت، فرجعت، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، ثم قلت: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ، فقال ذكرتك له، فصمت، فلما وليت منصرفا إذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت له: وأنا قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ فرفع بصره إليّ فقال: لا، فقلت: الله أكبر، كنا معاشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة فإذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلت يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها لا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته صلى الله عليه وسلم تبسم.
وفي رواية أن عمر رضي الله عنه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة حثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم من الغد وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر.
وقد يراد بالمراجعة المصالحة والرضا فلا ينافي ما تقدم أنه لم يطلقها وإنما أراد ذلك، ويدل له ما جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يطلقها فقال له جبريل عليه السلام: إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة، ومن هذا وما يأتي يعلم أنه صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه، وأما الظهار فلم يظاهر أبدا خلافا لمن زعمه.
أي وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب اعتزاله صلى الله عليه وسلم لنسائه في المشربة أنه شجر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين حفصة أمر، فقال لها: اجعلي بيني وبينك رجلا، قالت: نعم، قال: فأبوك إذن، فأرسلت إلى عمر فجاء، فلما دخل عليهما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: تكلمي، فقالت: بل أنت يا رسول الله تكلم ولا تقل إلا حقا، فرفع عمر رضي الله عنه يده فوجأها في وجهها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كف يا عمر، فقال عمر: يا عدوة الله، النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد إلى الغرفة، فمكث فيها شهرا لا يعرف شيئا من نسائه ونزلت آية التخيير. ويقال: لا مانع من اجتماع هذا السبب مع ما تقدم.
ويروى أن سبب نزول آية التخيير أن نساءه صلى الله عليه وسلم اجتمعن عليه فسألنه النفقة ولم يكن عنده شيء فآلى أن لا يجتمع بهن شهرا وصعد المشربة الحديث.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم