للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ففعلوا ذلك بعد أن سلط الله تعالى على جرهم دواب تشبه النغف بالغين المعجمة والفاء: وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم، فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشباب. وقيل سلط الله عليهم الرعاف فأفنى غالبهم: أي وجاز أن يكون ذلك الدم ناشئا عن ذلك الدود فلا مخالفة، وذهب من بقي إلى اليمن مع عمرو بن الحرث الجرهمي آخر من ملك أمر مكة من جرهم، وحزنت جرهم على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا وقال عمرو أبياتا منها:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وكنا ولاة البيت من بعد ثابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والدهور البواتر

ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم قال: كنت أكتب بين يدي الوزير يحيى بن خالد البرمكي أيام الرشيد فأخذه النوم، فنام برهة ثم انتبه مذعورا فقال: الأمر كما كان، والله ذهب ملكنا، وذل عزنا، وانقضت أيام دولتنا. قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: سمعت منشدا أنشدني: كأن لم يكن بين الحجون البيت، وأجبته من غير روية: بلى نحن كنا أهلها البيت، فلما كان اليوم الثالث وأنا بين يديه على عادتي إذ جاءه إنسان وأكب عليه، وأخبره أن الرشيد قتل جعفرا الساعة قال: أو قد فعل؟

قال نعم، فما زاد أن رمى القلم من يده وقال: هكذا تقوم الساعة بغتة.

ومما يؤثر عن يحيى هذا: ينبغي للإنسان أن يكتب أحسن ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب، ويحدث بأحسن ما يحفظ. وقال: من لم يبت على سرور الوعد لم يجد للصنيعة طعما.

وصارت خزاعة بعد جرهم ولاة البيت والحكام بمكة كما تقدم، وكان كبير خزاعة عمرو بن لحي، وهو ابن بنت عمرو بن الحارث الجرهمي آخر ملوك جرهم المتقدم ذكره. وقد بلغ عمرو بن لحي في العرب من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده في الجاهلية.

وهو أول من أطعم الحج بمكة سدائف الإبل ولحمانها على الثريد.

والسدائف: جمع سديف، وهو شحم السنام، وذهب شرفه في العرب كل مذهب حتى صار قوله دينا متبعا لا يخالف.

وفي كلام بعضهم: صار عمرو للعرب ربا، لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم، وربما نحر لهم في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة.

وهو أول من غير دين إبراهيم: أي فقد قال بعضهم: تظافرت نصوص العلماء

<<  <  ج: ص:  >  >>