الله تعالى عنهما اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن أي بأحد منهم.
ففي الصحيحين عنه قال «ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ- أي وكان بين الطائف ونخلة، كان لثقيف وقيس عيلان» كما تقدم «وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، ففزعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟
قالوا: قد حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: وما ذاك إلا من شيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة، فإذا هم بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا- يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد- فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن: ١] أي قل أخبرت بالوحي من الله تعالى أنه استمع لقراءتي نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: ١] أي جن نصيبين» .
أقول: تقدم أن إطلاق الفجر على الركعتين اللتين كان يصليهما قبل طلوع الشمس سائغ، فإن ذلك باعتبار الزمان لا لكونهما إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء، وقوله بأصحابه يجوز أن تكون الباء بمعنى مع، ويجوز أن يكون صلى بهم إماما، لأن الجماعة في ذلك جائزة.
ولا يخفى أن هذه القصة التي تضمنتها رواية ابن عباس غير قصة انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف، يدل لذلك قوله «انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ» لأنه في تلك القصة التي هي قصة الطائف كان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة على ما تقدم، وكان مجيئه صلى الله عليه وسلم من الطائف قاصدا مكة. وفي هذه كان ذهابه من مكة قاصدا سوق عكاظ، وأنه قرأ في تلك أي مجيئه من الطائف سورة الجن، وفي هذه قرأ غيرها ثم نزلت تلك السورة، وأن هذه القصة تضمنتها رواية ابن عباس سابقة على تلك، لأن قصة ابن عباس كانت في ابتداء الوحي، لأن الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب كانت في ذلك الوقت، وتلك كانت بعد ذلك بسنين عديدة.
وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع الجن به صلى الله عليه وسلم ولا قرأ عليهم، وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم. وقد صرح به ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه، وصرح به الحافظ الدمياطي في تلك حيث قال في سيرته «فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلي من الليل فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين، فاستمعوا له صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الجن، ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: الآية ٢٩] هذا كلامه، ونزول ما ذكره كان بعد انصرافهم.