وفي رواية «قالوا له صلى الله عليه وسلم أنه أمتك عن الاستنجاء بهما، فإن الله تعالى قد جعل لنا فيهما رزقا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالعظم والبعر» أي وحرمة نحو البول أو التغوط عليهما تعلم من ذلك بالأولى، ومنه يعلم أن مرادهم بالتقذير التنجيس لا ما يشمل التقذير بالطاهر كالبصاق والمخاط.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال «بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشي إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه صلى الله عليه وسلم وأدنت فاها من أذنه وكأنها تناجيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم فانصرفت، قال جابر: فسألته، فأخبرني أنه رجل من الجن، وأنه قال له مر أمتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة: أي العظم، لأن الله تعالى جعل لنا في ذلك رزقا» ولعل هذا الرجل من الجن لم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. ولا يخفى أن سؤال الزاد يقتضي أن ذلك لم يكن زادهم وزاد دوابهم قبل ذلك. وحينئذ يسأل ما كان زادهم قبل ذلك؟ وقد يقال: هو كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام الآدميين، وحينئذ يكون ما تقدم في خبر إبليس المراد بما لم يذكر اسم الله عليه غير العظم فليتأمل، والنهي عن الاستنجاء يدل على أن ذلك لا يختص بحالة السفر بل هو زادهم بعد ذلك دائما وأبدا.
وقصة جابر هذه سيأتي في غزوة تبوك نظيرها «وهو أن حية عظيمة الخلق عارضتهم في الطريق، فانحاز الناس عنها، فأقبلت حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إليّ يستمعون القرآن» قال في المواهب:
وفي هذ ردّ على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب: أي وإنما يتغذون بالشم.
أقول: ذكرت في كتابي «عقد المرجان فيما يتعلق بالجان» أن في أكل الجن ثلاثة أقوال: قيل يأكلون بالمضغ والبلع، ويشربون بالازدراد. والثاني لا يأكلون ولا يشربون بل يتغذون بالشم. والثالث أنهم صنفان: صنف يأكل ويشرب، وصنف لا يأكل ولا يشرب، وإنما يتغذون بالشم وهو خلاصتهم، والله أعلم.
«قال ابن مسعود: فلما ولوا قلت من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جن نصيبين» وفي رواية «فتوارى عني حتى لم أره، فلما سطع الفجر أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي:
أراك قائما، فقلت ما قعدت، فقال: ما عليك لو فعلت أي قعدت؟ قلت: خشيت أن أخرج منه فقال: أما إنك لو خرجت لم ترني ولم أرك إلى يوم القيامة» أي وفي رواية «لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم» وفيه أن الخروج لا ينشأ عن القعود حتى يخشى منه الخروج. وفي رواية «قال لي: أنمت؟ فقلت: لا والله يا رسول الله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس، أي لما تراكموا عليك، وسمعت منهم لغطا شديدا