حتى خفت عليك إلى أن سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول: اجلسوا، وسأله عن سبب اللغط الشديد الذي كان منهم، فقال: إن الجن تداعت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليّ، فحكمت بينهم بالحق» .
وفي رواية عن سعيد بن جبير أنه أي ابن مسعود قال له: أولئك جن نصيبين، وكانوا اثني عشر ألفا، والسورة التي قرأها عليهم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية ١] أي ولا ينافي ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه افتتح القرآن، لأن المراد بالقرآن القراءة. زاد ابن مسعود على ما في بعض الروايات «ثم شبك أصابعه في أصابعي، وقال: إني وعدت أن تؤمن بي الجن والإنس، أما الإنس فقد آمنت، وأما الجن فقد رأيت» .
أقول: وفي هذا أن ابن مسعود لم يخرج من الدائرة التي اختطها له صلى الله عليه وسلم وفي السيرة الهشامية ما يقتضي أنه خرج منها حيث قال عن ابن مسعود «فجئتهم فرأيت الرجال ينحدرون عليه صلى الله عليه وسلم من الجبال، فازدحموا عليه إلى آخره» فليتأمل.
فعلم أن هذه القصة بعد كل من قصة ابن عباس وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف، فإن قصة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت في أول البعث، وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف بعدها بمدة مديدة كما علمت، وهذه القصة كانت بعدهما بمكة والله أعلم «ثم قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: هل معك وضوء أي ماء نتوضأ به؟ قلت لا، فقال: ما هذه الإداوة أي وهي إناء من جلد؟ قلت فيها نبيذ؟ قال: ثمرة طيبة وماء طهور صبّ عليّ، فصببت عليه فتوضأ وأقام الصلاة وصلى» .
أقول: وهو محمول عند أئمتنا معاشر الشافعية على أن الماء لم يتغير بالتمر تغيرا كثيرا يسلب اسم الماء، ومن ثم قال ماء طهور، وقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فيها نبيذ أي منبوذ الذي هو التمر، وسماه نبيذا باعتبار الأول على حد قوله تعالى إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف: الآية ٣٦] وهذا بناء على فرض صحة الحديث، وإلا فقد قال بعضهم: حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه: الذي أقول به منع التطهر بالنبيذ، لعدم صحة الخبر المروي فيه، ولو أن الحديث صح لم يكن نصا في الوضوء به فإنه صلى الله عليه وسلم قال «ثمرة طيبة وماء طهور» ، أي قليل الامتزاج والتغير عن وصف الماء، وذلك لأن الله تعالى ما شرع الطهارة عند فقد الماء إلا بالتيمم بالتراب خاصة.
قال: ومن شرف الإنسان أن الله تعالى جعل له التطهر بالتراب، وقد خلقه الله من تراب فأمره بالتطهر أيضا به تشريفا له. وعند أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة «قلت لابن مسعود هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما