صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا أستطير أو اغتيل وطلبناه فلم نجده فبتنا بشرّ ليلة، فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل الحجون» وفي لفظ «من قبل حراء، فقلنا:
يا رسول الله إنا فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشرّ ليلة، فقال إنه أتاني داعي الجن، فذهب معهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» وهذه القصة يجوز أن تكون هي المنقولة عن كعب الأحبار المتقدم ذكرها وهي سابقة على القصة التي كان فيها ابن مسعود. ويجوز أن تكون غيرها وهي المرادة بقول عكرمة «إنهم كانوا اثني عشر ألفا جاؤوا من جزيرة الموصل» لأن المتقدم في تلك عن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا ثلاثمائة من جن نصيبين.
وحينئذ يحتمل أن تكون هذه القصة سابقة على القصة التي كان بها ابن مسعود، ويحتمل أن تكون متأخرة عنها، وعلى ذلك يكون اجتماع الجن به صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث مرات مرة كان فيها معه ابن مسعود، ومرتين لم يكن معه ابن مسعود فيهما.
قال في الأصل: ويكفي في أمر الجن ما في سورة الرحمن وسورة- قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن: الآية ١]- وسورة الأحقاف.
أقول: فعلم أن الجن سمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا به ولا شعر بهم في المرة الأولى وهو ذاهب من مكة إلى سوق عكاظ في ابتداء البعث المتقدمة عن ابن عباس على ما تقدم، ولا في المرة الثانية عند منصرفه من الطائف بنخلة على ما قدمناه فيه، وعلم أن الروايات متفقة على استماعهم لقراءته صلى الله عليه وسلم في المرتين، وبه يعلم ما في المواهب عن الحافظ ابن كثير أنّ كون الجن اجتمعوا له صلى الله عليه وسلم في نخلة عند منصرفه من الطائف فيه نظر، وإنما استماعهم له كان في ابتداء البعث كما يدلّ عليه حديث ابن عباس، أي من أن ذلك كان عند ذهابه إلى سوق عكاظ، وعلم أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم وآمنوا به في مكة مرتين أو ثلاثة بعد ذلك والله أعلم.
وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن قتادة «أنه قال: لما أهبط إبليس قال:
أي رب قد لعنته فما علمه؟ قال السحر، قال: فما قراءته؟ قال الشعر، قال: فما كتابته؟ قال: الوشم، قال: فما طعامه؟ قال: كل ميتة ولم يذكر اسم الله عليه- أي من طعام الإنس يأخذه سرقة، قال: فما شرابه؟ قال: كل مسكر، قال: فأين مسكنه؟
قال: الحمام، قال: فأين محله؟ قال: في الأسواق، قال: فما صوته؟ قال المزمار، قال: فما مصايده؟ قال النساء» فالحمام محل أكثر اقامته، والسوق محل تردده في بعض الأوقات. والظاهر أن مثل إبليس فيما ذكر كل من لم يؤمن من الجن.