فمن هؤلاء الأئمة الحاكم أبو عَبْد الله النيسابوريُّ، ولا تخفى المكانة العلمية التي يحظى بها بين أهلى الحديث، وَيكْفينا في ذلك قولُ تلميذه الحافظ البيهقيّ:"أبو عبد الله الحافظ إمام أهل الحديث في عصرِهِ". وقول بلديِّه الحافظ عبد الغافر الفارسيّ:"أبو عبد الله الحافظُ البَيِّع إمامُ أهلِ الحديثِ في عَصْره، والعارفُ به حقَّ معرفته … وبيتُه بيتُ الصَّلاح والورعِ والتَّأذين في الإسلام".
وقد روى عن ألف شيخٍ أو أكثر من أهل الحديث، وقرأ القرآن بخُراسان والعراق على قُرّاء وقتِه، وتفقَّه على الإمام أبي الوليد القرشي، والأستاذ أبي سَهل الصُّعْلُوكيّ، واختص بصُحبة إمام وقته أبي بكر الصِّبْغيّ، فكان في الخواص عنده والمرموقين، وكان الإمامُ يُراجِعُه في السُّؤال عن الجَرْح والتعديل وعلل الحديث، ويقدمه على أقرانه، وأدى اختصاصه به واعتماده إليه في أمور مدرسته دارِ السُّنة، وفوَّض إليه توليةَ أوقافِه، واستضاء برأيه في أموره اعتمادًا على حسن دِيَانته ووفور أمانته، وجرت له مذاكرات ومحاورات مع الحُفاظ والأئمة من أهل الحديث؛ مثل أبي بكر بن الجِعَابي بالعراق، وأبي علي الحافظ المَاسَرْجِسِيِّ الحافظ الذي كان أحفظَ أهل زمانِه.
وأخذ في التَّصنيف سنةَ سبعٍ وثلاثين وثلاثمائة، فاتَّفق له من التَّصانيف ما لعلّه يبلغُ قريبًا من ألف جزءٍ من تخريج "الصَّحيحين"، والعِلَل، والتراجمِ، والأبوابِ، والشُّيوخ، ثم المجموعات مثل:"معرفة علوم الحديث"، و "مُسْتَدرك الصَّحيحين"، و "تاريخ النيسَابُوريين"، و "كتاب مُزكي الأخبار"،