للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعضاَ، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سيق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذى جاء له الكتاب بجملته.

ثانيها: الأساليب، فينبغى أن يكون عنده من عملها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته، مع التفطن لنكته ومحاسنه، والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه. نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال والتمام، ولكن يمكننا فهم ما نهتدى به بقدر الطاقة، ويُحتاج فى هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب (المعانى والبيان) ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب.

ترون فى كتب العربية أن العرب كانوا مسددين فى النطق، يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع، أتحسبون أن ذلك كان طبيعياً لهم؟ كلا، وإنما هى مَلَكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة، ولذلك صار أبناء العرب أشد عُجْمة من العجم عندما اختلطوا بهم، ولو كان طبيعياً ذاتياً لما فقدوه فى مدة خمسين سنة بعد الهجرة.

ثالثها: علم أحوال البَشر، فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب، وبيَّن فيه ما لم يُبيِّن فى غيره، بَيَّن فيه كثيراً من أحوال الخلق وطبائعهم، والسُنن الإلهية فى البشر، وقصَّ علينا أحسن القَصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسُنَّته فيها، فلا بد للناظر فى هذا الكتاب من النظر فى أحوال البشر فى أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالَم الكبير، عُلويه وسُفليه، ويحتاج هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه.

قال الأستاذ الإمام: أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسِّر قوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة: ٢١٣] .. الآية، وهو لا يعرف أحوال البَشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرَّقوا، وما معنى تلك الوحدة التى كانوا عليها، وهل كانت نافعة أو ضارة، وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم.

أجمل القرآن الكريم عن الأُمم وعن السُنن الإلَهية، وعن آياته فى السماوات والأرض، وفى الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمَّن أحاط بكل شئ علماً، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير فى الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذى يزيدنا ارتقاءً وكمالاً، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة فى ظاهره، لكنَّا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا بما حواه من علم وحكمة.

رابعها: العلم بوجه هداية البَشر كلهم بالقرآن، فيجب على المفسِّر القائم بهذا

<<  <  ج: ص:  >  >>