التصرف فى البدن الطبيعى بحيث يُخرجه عن حكم الإمكان ويُدخله فى عالم العرش الذى هو فوق الإمكان وفوق عالَم العقول والملائكة المقرَّبين، كما روى أن جبريل تخلَّف عن الرسول صلى الله عليه وسلم فى المعراج، وقال: لو دنوتُ أنملة لاخترقت، مع أنه من عالَم العقول المقرَّبين، فهو من خواص خاتم الكل فى الرسالة والنبوة والولاية، وهو من خواص نبينا صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه غيره لا نبى مرسل ولا خاتم الأولياء. ولذلك جعلوا المعراج الجسمانى بالكيفية المخصوصة من خواصه صلى الله عليه وسلم. ولما كان المعراج بتلك الكيفية أمراً لا يتصور أمر فوقه من الممكن، وكان لا يتيسر إلا إذا غلب العالَم الذى فوق الإمكان على البدن الطبيعى ولا تتيسر تلك الغلبة بسهولة ولكل واحد وفى كل زمان، قالوا: إن المعراج للنبى صلى الله عليه وسلم كان مرتين، مع أنه نُسِب إلى بعض العرفاء أنه قال: إنى أعرج كل ليلة سبعين مرة، والمعراج بالروح أمر يقع لكثير من الرياضيين، بل ورد أن الصلاة معراج المؤمن.
إذا تقرر ذلك نقول: إنه عرج ببدنه الطبيعى وعليه عباءته ونعلاه إلى بيت المقدس، ومنه إلى السماوات، ومنها إلى الملكوت، ومنها إلى الجبروت، ومنها إلى العرش الذى هو فوق الإمكان، وفى هذا السير تخلَّف جبريل عنه صلى الله عليه وسلم، لأنه كان من عالَم الإمكان، ولم يكن له طريق إلى ما فوق الإمكان، لأن الملائكة كُلٌ له مقام معلوم لا يتجاوزه، بخلاف الإنسان. ولم يكن منه ذلك المعراج إلا مرتين كما فى الأخبار، ولا يلزم منه خرق السماوات، لارتفاع حكم الملك عن بدنه بغلبة الملكوت - ولا استغراب فى عروج البدن الطبيعى إلى الملكوت والجبروت - ولسقوط حكم الملك بل حال الإمكان عنه مع بقاء عينه، ولا غرو فى كثرة وقائعه فى المعراج، فإنه من بسط الدهر مع قصر الزمان كما قال:{وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}[الحج: ٤٧] ، وقال أيضاً:{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج: ٤] .. فقدر ساعة من الدهر بإزاء ساعة من الزمان تكون كألف ساعة من الزمان أو خمسين ألف ساعة".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢١] من سورة الحِجْر: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} .. يقول ما نصه: "اعلم أنه قد يُطلق الشئ ويراد به ما يساوق الموجود، فيشمل الحق الأول تعالى شأنه. وقد يُطلق ويُراد به المشئ وجوده، فلا يشمل الحق الأول، ولا حضرة الأسماء ولا حضرة الفعل الذى هو مبدأ إضافاته، ويشمل الممكنات كلها من حضرة العقول المعبَّر عنها بالأقلام العالية والملائكة المقرَّبين، وحضرة الأرواح المعبَّر عنها بأرباب الأنواع والصَّافات صفاً، وحضرة النفوس الكلية المعبَّر عنها بالأرواح