وتقرير الحجّة المذكورة هو أنّه لو لم يكن نبيًا حقًّا ورسولًا صِدقًا، لما جاءت هذه النصوصُ المتعارِضة على لسانه في كتابه. لكنّها وَرَدَت على لسانه؛ فيكون نبيًّا حقًّا.
بيانُ الشرطيّةِ هو أنّه عليه السلام لم يَشك أحدٌ مِن منكرِي نبوّتِه في فضيلته وحِكمته. ولولا ذلك، ما تَقرر له هذا الناموسُ الدائم عندهم. وأيضًا، من أَنصَف ونظر في سيرته، وآدابه، وتأدبه أمّتَه، وأصول شريعته، وفروعها، عَلم قطعًا أنّه كان على غايةٍ مِن الحكمة والسياسة.
وإِذا ثبت ذلك، فنقول: صدور هذا التعارُض العظيم مِن مِثل ذلك الحكيم، إِن لم يكن من عند الله سبحانه، تَلَقَّاه تَلَقيًا وأَخَذَه عنه توقيفًا، محالٌ في العادة. وذلك لأنّا رأينا الحكماءَ الذين لم يُقرروا مِثلَ شريعةِ محمّدٍ ولا مِثلَ ناموسِه، كبقراط وآرسطو وجالينوس وأضرابهم، يُصنِّف أحدُهم الكتبَ العظيمة الحج، التي أصغرها حجمًا أكبر مِن حجمِ المصحف الكريم، فيَحتَرِز مِن التعارُض فيها؛ فلا يأتي منه بموضعٍ واحدٍ. بل هذه أجلافُ العرب يُنشِئ أحدُهم الخطبةَ، أو الرسالة، أو القصيدة الطويلة، فيُنقِّحها حتى لا تَناقُض فيها في موضع واحد. فما الظنّ بحكيمٍ يؤسس شريعةً وناموسًا يَبقى على مرور الأيّام، يأتى بكتابٍ لطيف الحجم، فيه هذا التعارص العظيم ظاهرًا؛ مع أنّه عند خصومع صنّفه في مدّة عمرِه ستين سنةً! فإِنّ العادةُ تُحِيل، مع حكمة المصنف ولُطِف التصنيف وطولِ زمنه وعِظم المقصودِ منه، أن يَترك فيه مِثل هذا التعارُضَ، أو يخفى عنه مكانُه، لظهوره، وحينئذٍ، يَدل بضرورة العادة أنّه إِنما جاء به من عند الله، وفوَّض أمرَه إِلى الله.
وهذه حجَةٌ قويةٌ مستندها العلمُ الضروريّ العاديّ. ولا أعَلَم يَردُ عليها إِلاّ سؤالٌ واحدٌ؛ وهو أن يقال:"لعلّه وَضَع هذا التعارضَ في كتابه، ليُحتج له به، كما قررتموه، ويوهمَ الناسَ أنّ هذا لو كان مِن عندي، لما كان فيه هذا المتشابِه والمختِلف. فيُنبِّههم ذلك على أنّه مِن عند الله، وإِن لم يكن كذلك؛ كما يوهم الساحرُ بسحره أنّه معجِزٌ؛ وليس كذلك".