والجواب أنّ ما ذكرتموه، وإِن كان لقائلٍ أن يقوله في مقام المدافَعةِ والعناد، إِلاّ إِنّه باطلٌ في مستقَرّ العادات. وذلك لأنّ مِن القضايا الضروريّة عند العقلاء ترجيحُ أعظمِ المصلحتين، ودفعُ أعظمِ المفسدتين؛ حتى قال القائل:
ومَن حَصّل مصلحةً مرجوحةً، مع تفويت مصلحةٍ راجحةٍ جدًا، أو دَفَعَ مفسدةٍ يسيرةً، والتَزَم أشد منها، عُد عند العقلاء سفيهًا، يحكمون عليه بذلك بديهةً. ونحن قد بيّنّا حكمةَ محمدٍ عليه السلام ومعرفته بأحكام السياسة. ووافق الخصمُ على ذلك وحينئذٍ، لو تَعَمّد هذا التعارضَ والاختلافَ في كتابه، لكان مفوّتًا لمصلحةٍ راجحةٍ مقطوعةٍ، لأجل مصلحةٍ مرجوحةٍ مظنونةٍ، وملتزمًا لمفسدةٍ راجحةٍ مقطوعةٍ، لدفعِ مفسدةٍ مرجوحةٍ مظنونةٍ. وحينئذٍ، يكون مِن قبيلِ السفهاء؛ وقد فرضناه مِن أفضل الحكماء؛ هذا خلفٌ.
وبيان ذلك أنّ هذا التعارُض، مع ظهوره، ومبادرة الأذهان إِليه، مُنفرٌ لمن حوله عنه، موجِبٌ لسوء الظنّ به. وذلك مِما يَعكس مقصودَه، ويُفرّق عنه جنودَه. فلو تعمّده لأجل تنُّههم على الحجّة المذكورة، لكان عادلًا عن الراجح إِلى المرجوح، كما ذكرنا. لأنّ الحجّة المذكورة إِنما يتنبّه لها أذكياءُ الناس وفضلاؤهم؛ والتعارضَ المذكور يَنفُر عنه جميعُهم، أوأكثرُهم. فقد تبين بما ذكرناه ضعفُ السؤال وقوّةُ ما ذكرناه من الاستدلال.