للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الغموس؛ لأنّا بَيّنّا في القواعد أنّ الكفّارةَ متردِّدةٌ بين معنى العقوبة ومعنى الجُبران، وأنّ معنى العقوبة فيها أظهرُ؛ لقوله سبحانه، في كفّارة الصيد: {ليذوث وبال أمره}؛ يعني القاتلَ عُوقِب بالغرم في ماله أو بُنيَته، لكونه أَتلَف مالًا لله، هو ممنوعٌ منه، بإِتلاف بدنِ الصيدِ. وأيضًا، فإِنّ الفقهاء قالوا: "التعزيز مشروعٌ في كلّ معصيةٍ لا حدّ فيها ولا كفّارةٌ، لئلاّ يخلو الفعلُ من عقوبةٍ". فدلّ على أنّ الكفّارة عقوبةٌ، كالحدّ والتعزيز.

ولا يَرِدُ على كون الكفّارةِ عقوبةً إِلاّ كفّارة قتلِ الخطأِ؛ إِذ لا إِثم يُعاقَب بها عليه ونحن نقول: إِنها عقوبةٌ على تفريطِه؛ إِذ لم يَثبَّت ليَظهَر له وَجهُ الخطأ، فيَجتَنِب أسبابَه. فإِنّ من رأى حيوانًا في ليلٍ، أو في حَمَرٍ، يمكنه أن يَتأنّى ليُحقِّق هو إِنسانٌ أو لا. فإِذا لم يُحقَّق ذلك، بل بادر ورَمَى، فقتَله، فإذا هو إِنسانٌ، ناسَبَ عقلًا وشرعًا أن يَتعلَّق بِفعله العقوبةُ على استعجالِه. وعلى هذا، فقِس في صُوَر الخطأ.

أو نقول: إِنّ كفّارة الخطأ تَثُبت من قبيل ربطِ الُحكمِ بالسبب؛ بثَنيها على عِظَمِ القتلِ والتغليط في أمرِه. وربطُ الأحكامِ بالأسباب على خلاف الأصل؛ لمَا قَرَّرناه في القواعد.

إِذا ثَبَتَ أنّ الراجح في الكفّارة معنى العقوبة، فلا شكّ في مناسَبةِ هذه الأفعال الثلاثة للعقوبة.

أمّا القتل عَمدًا، فظاهرٌ. ولهذا أُوجِبت العقوبةُ في النفس بالقَوَدِ، وفي المال بالديَة، لحقٍّ الآدمي. فكذلك، فالمالُ بالكفّارةِ، لحقِّ اللهِ سبحانه؛ إِذ قد بَيّنّا أنّ الحقّ في النفس مشترَكٌ لله سبحانه، وللعبج بالعَرض؛ وإِن كان في الأصل حقًّا لله لا غير، بمقتضى المالكيّة الثابتة بالخالقيّة؛ إِذ الأصل أنْ كلّ مَن خَلَق شيئًا وأَوجَده، مَلَكَه. ولا خالق للموجودات إِلاّ الله؛ فلا مالك لها إِلاّ هو سبحانه.

وأمّا يمين الغموس، وهي أن يحلِف كاذبًا عالمًا بكذبه، فلأنّه اجتَرَأن على الله وانتهك حُرمةً اسمِه العظيم. وفي ذلك نوعُ استخفافٍ واستهانةٍ. فالعقوبة فيه أنسبُ منها في

<<  <   >  >>