للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قتل النفس؛ لأنّه اجتِراءٌ على مُلكِ الله، وهذا اجتِراءٌ على عَظَمة اللهِ. ونحن نَرى أنّ المَلك، أو ذا القَدرِ والمنصبِ من المخلوقين، قد يعفو عن مِلسِ الأرضِ ذهبًا وعبيدًا وخيلًا وغير ذلك، ولا يُسامِح بكلمةٍ تَغُضُّ من قَدرِه ومنصبه. ولو لم تَغُضّ منه أيضًا، لم يُسامِح بها، لاقتضاء أنَفَة المنصبِ ذلك. فالله سبحانه أولى بهذه الغِيرة على عظمته. ولولا أنّ الله تعالى حليمٌ، لَمَا قَنعَ مِن صاحب يمين الغموس بكفّارةٍ، هي قَدرٌ نزِرٌ في نفسها وفي العقوبة بها. بل لو أهلَك الوجودَ جميعه بمثلِ ذلك، لكان قليلًا في جنبِ عظمته. لكنّه سبحانه يقول: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة}، إِلى قوله في آية أخرى: {إنه كان حليما غفورا}. لكنّه أعدّ للحانث في الآخرة ما دَلَّ عليه قولُه تعالى، {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا}، الآية، وما وَرَد في السنّة من الوعيد.

فأمّا قول الفقهاء، "لا يجب، لأنّ الذي أتى أعظم مِن أن يكون فيه كفّارةٌ" فهو بناءٌ منهم على أنّ الكفّارة تكفر الإِثمَ، أي تغطيه أو تزيله. فإِثم الغموس ونحوها لا يكفّر بشيءٍ. وهو غير مسَلَّمٍ. بل إِنما هي عقوبةٌ؛ والعقوبات شُرِعَت زواجرَ. وأوَلى ما زُجِر عنه حُرمةُ اللهِ سلحنه أن تُنتهَك في مُلكِه وعظمتِه.

ثمّ هذا القاتل والحانث، إِذا صارا إِلى الله، إِمّا أن تَتقدّم لهما توبةٌ؛ فقبولها واجبٌ عند المتعزلة، مِرجُو عندنا من كَرَمِ اللهِ؛ فيَسلَمان. أو لا تَتقدّم لهما توبةٌ؛ فقبولها واجبٌ عند المعتزلة، مَرجُو عندنا من كَرَمِ اللهِ؛ فِيسلَمان. أو لا تتقدّم لهما توبةٌ. فإِمّا أن يُخلَّدا في النار، كما تقوله المعتزلة؛ أو لا يخلّدا. فإِن خُلِّدا، فقد أَشبَها الكفّارَ، وسَقَطَت حرمتُهما. فإِيجاب الكفّارة عليهما في دار التكليف، مع مصيسرهما إِلى الخلود في النار، لا محذور فيه، لسقوط حُرمتِهما المبيَّن في المالِ. وإِن لم يخلَّدا، فعذابهما على القتلِ والحنثِ مُتَنَاهٍ. فلتكن الكفّارةُ الآن من جملة ذلك المتناهى تحصيلًا لفائدة ردعِه، بتعجيل بعض العقاب له، وزجرِ غيره. والله سبحانه لا يَظلمه. فهو يخفِّف عنه من عذاب الآخرة بقدرِ ما أُخِذ منه في الدنيا.

<<  <   >  >>