للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأمّا المنفرد برؤية هلال رمضان، إِذا لم يَثبُت الصوم العامّ برؤيته، وفَعَلَ في ذلك اليوم ما يقتضى وجوبَ الكفّارة في غيره، فالعقوبة له مناسبةٌ؛ لأنّه انتَهك حُرمةَ اللهِ بمخالفته أمرَه قطعَا؛ إذ لا أعلى من مدرَك البصرِ؛ وقد شاهد الهلالَ؛ فثّبَتَ في حقّه قطعًا. والحنفيّة يقولون: "إِنما ثبت الشهرُ من وجهٍ؛ يعني بالنسبة إِليه دون غيره. فكان ذلك ثبوتًا ناقصًا. فكان شبهةً في درء الكفّارة لأنها حدُّ؛ والحدود تُدرأُ بالشبهات". وهذه قاعدةٌ عامّةٌ لهم في الأحكام؛ أعني تأثيرَ الوجودِ من وجهٍ دون وجهٍ في ضعفِ الموجود. وهي ها هنا تخيُّلٌ لا حقيقة له؛ لأنّ الشهر، كما ثبت بالنسبة إِليه، فكذلك وجوب الكفّارة إِنما هو عليه مختصّ به، لم يوجد على غيره بقوله سببًا.

ثّم نقول: منعُكم لوجوبِ الكفّارة عليه، إِمّا في الباطن، أعني فيما بنيه وبين الله تعالى؛ أو في ظاهرِ الحُكمِ، لوقوع الشبهةِ وكونه مظنّةً لغلظه. والأوّل لا سبيل إِليه؛ لأنّه متى ثبت في نفس الأمرِ أنّه وَطَأ في نهار رمضان، تعلَّق به مُقتضى الوطءِ باطنًا. وإِلاّ لزِم انقلابُ حقائقِ أحكام الشريعة؛ لأنّ الشبهات إِنما تُؤثِّر في ظواهر الأحكام؛ أمّا في الحقائق الثابتة عند الله سبحانه، فلا.

وأمّا الثاني، فلنفرِض الكلامَ فيمن أخَبر أنّه رأى الهلالَ، ولم يَتشكّك فيه، وأنّه وَطَأ في ذلك اليوم. فإِن أَلزَمتموه الكفّارةَ، حصل الوفاقُ. وغيره مِثله؛ لأنّا إِنما نوجبها على مِن ثبت عليه ذلك قطعًا. وإِن لم تُلزِموه الكفّارةَ، فالدليل عليه أنّه أقرّ بحقّ آدميِّ، أو مساوٍ لحقّ الآدميّ. وكل مّن أقرَ من أقَر بذلك، لَزِمه مقتضى إِقرارِه. أمّا أنّه أقّر بحقّ آدمي، فلأنّ مصرفَ الكفّارات الفقراءُ. ولأجلهم أَوجَبها اللهُ بأسبابها، كما أَوجَب الزكاةَ.

فإِن قيل: "هو حقّ آدميِّ ناقصٌ؛ لأنّه ليس مستقلًّا بالاستحقاق؛ فلا يصحّ قياسُه على الحقّ الكامل". قلنا: فهو إِمّا حقّ الله، أو حقّ الآدميّ، أو حقّهما؛ لأنّه من أحدهما. فإِن كان حقَّ الآدميِّ، فقد ثبت المطلوبُ. وإِن كان حقَّ اللهِ، فهو مساوٍ لحقّ الآدميّ في التأكّد، بل آكَدُ. بدليل قوله عليه السلام، "فدِين اللهِ أحقّ بالقضاء". وحُكم المتساويين مساوٍ. وإِن كان حقّهما جميعًا، فحقّ اثنين آكَدُ من حقّ واحدٍ. على

<<  <   >  >>