بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش مرتين» ويعين على الصبر خصوصاً فيما يتعلق بالناس كثرة الحلم كشيخنا المصنف عليه سحائب رحمة الله؛ وانظر ما وقع من الجارية التي صبت الماء لسيدنا علي ابن سيدنا الحسين رضي الله عنه في الوضوء ليتهيأ للصلاة فوقع الإبريق من يدها على وجهه فشجه فرفع بصره لها فقالت إن الله عز وجل يقول: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: ١٣٤] قال: كظمت غيظي فقالت: {والعافين عن الناس} [آل عمران: ١٣٤] فقال: عفا الله عنك فقالت: {والله يحب المحسنين} [آل عمران: ١٣٤] فقال: اذهبي أنت حرة لوجه الله، والصبر: الاستعانة بالله والوقوف معه تعالى بحسب الأدب والصبر على الطلب عنوان الظفر، وعلى المحن عنوان الفرج. ومن أعظم الصبر الصبر على مخالفة شهوات النفس من حب الرياسة والمحمدة والرياء.
(مسلماً لله أمره) فإن من سلم لله أمره أراح قلبه ونال مراده، ومن لم يسلم لا يفيده إلا الوبال ولا بد من نفوذ مراده تعالى، والأحاديث في ذلك كثيرة منها: «يا عبدي إن رضيت بما قسمت لك أرحت بدنك وقلبك وكنت عندي مرضياً، وإن لم ترض بما قسمت لك سلطت عليه الدنيا تركض فيها كركض الوحش في البرية وأتعبت بدنك وقلبك، وكنت عندي مذموماً ولا يكون إلا ما قسمت لك» أو كما قال فمن سلم لله أمره كان من المتقين الذين يرزقهم الله كما قال تعالى: ({ومن يتق الله} [الطلاق: ٢]) بامتثال مأموراته واجتناب منهياته، نسأل الله التوفيق لذلك. ({يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: ٢ - ٣]) فرجاً وخلاصاً من مضار الدارين وفوزاً بخيرهما. روي أن سالم بن عوف أسره العدو فشكا أبوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: «اتق الله، وأكثر قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» ففعل فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها.
(والنية الحسنة روح العمل
ــ
في هذا المعنى أبو الحسن الشاذلي: وصبرنا على طاعتك وعن معصيتك وعن الشهوات الموجبات للنقص أو البعد عنك.
قوله: [بحسن عزائها]: أي وهو استرجاعه إلى الله بالقلب واللسان.
قوله: [كتب الله له] إلخ: هذا كناية عن سعة المجازاة والدليل القاطع في ذلك: قوله تعالى {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: ١٠] وإنما تفاوتت تلك المراتب؛ لأن الأجر تابع لعظم المشقة فيؤخذ من الحديث أن الدوام على الطاعة أشق من الصبر على المصيبة، وهجر المعاصي دواماً أشق من الدوام على الطاعات؛ لأنه يوجد كثيراً من يديم الذكر مع كونه لا يملك نفسه في هجر المعاصي وفي الحديث: «أفضل الهجرة أن تهجر الحرام»، وقد مدح الله صاحب هذا المقام بقوله: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: ٤٠ - ٤١].
قوله: [ويعين]: فعل مضارع وكثرة الحلم فاعله.
قوله: [لسيدنا علي ابن سيدنا الحسين]: أي وهو الملقب بزين العابدين الذي قال فيه الشاعر:
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم
وهذه الواقعة كما تدل على حلم سيد الجارية وكرمه تدل على حسن ذكائها كما قال في الهمزية:
وما أحسن ما يبلغ المنى الأذكياء
قوله: [والصبر]: أي الكامل الشامل للأقسام الثلاثة
قوله: [والوقوف معه]: أي مع أحكامه خيرها وشرها حلوها ومرها.
قوله: [على الطلب]: أي على ما يطلب ويقصد من خير الدنيا والآخرة.
وقوله: [عنوان الظفر]: أي علامة على حصوله وهو بالظاء المشالة محركاً الفوز.
قوله: [وعلى المحن]: أي المكاره الدينية والدنيوية.
قوله: [أراح قلبه]: أي من العناء وقد قلت في هذا المعنى:
أرح قلبك العاني وسلم له القضا ... تفز بالرضا فالأصل لا يتحول
علامة أهل الله فينا ثلاثة ... إيمان وتسليم وصبر مجمل
قوله: [منها يا عبدي] إلخ: هذا حديث قدسي محكي عن الله ومنها أيضاً: «يا عبدي أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن سلمت لي ما أريد أعطيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي ما أريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد».
قوله: [أرحت بدنك]: يصح بحسب المعنى فيه وفي قوله وأتعبت فتح التاء وضمها وانظر الرواية.
قوله: [كركض الوحش في البرية]: كناية عن كونه مهملاً معدوداً من الأخيار.
قوله: [روي أن سالم بن عوف]: أي وهو أخو عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهذا شاهد على أن من يتقي الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.
قوله: [والنية الحسنة روح العمل]: أي فصور الأعمال كالأجساد والنية الحسنة روحها، فكما أن الجسم لا قوام له بدون روحه كذلك لا قوام لصور الأعمال الصالحة بدون حسن النية، والدليل على ذلك