وذهب بعض الأئمة كالشافعي إلى أن الركن الوقوف إما نهاراً أو ليلاً.
(وسن خطبتان) كالجمعة (بعد الزوال) بمسجد عرفة ويقال مسجد نمرة أيضاً؛ لأن مقصورته الغربية التي بها المحراب في نمرة وباقيه في عرفة، وهو مسجد عظيم الشأن متين البنيان أكثر الحجاج الآن لا يعرفه ولا يهتدي إليه حتى طلبة العلم، سوى أهل مكة وغالب أهل الروم؛ فلهم اعتناء بإقامة الشعائر (يعلمهم) الخطيب (بهما): أي الخطبتين بعد الحمد والشهادتين (ما عليهم من المناسك) قبل الأذان للظهر، بأن يذكر لهم أن يجمعوا بين الصلاتين جمع تقديم، وأن يقصروهما للسنة إلا أهل عرفة فيتمون، وبعد الفراغ منهما ينفرون إلى جبل الرحمة واقفين أو راكبين بطهارة، مستقبلين البيت وهو جهة المغرب بالنسبة لمن بعرفة داعين متضرعين للغروب. ثم يدفعون بدفع الإمام بسكينة ووقار، فإذا وصلتم لمزدلفة فاجمعوا بين المغرب والعشاء جمع تأخير تقصرون العشاء إلا أهل مزدلفة فيتمون وتلتقطون منها الجمرات ثم تبيتون بها وتصلون بها الصبح، ثم تنفرون إلى المشعر الحرام فتقفون به إلى قرب طلوع الشمس، ثم تسيرون لمنى لرمي جمرة العقبة وتسرعون ببطن محسر، فإذا رميتم الجمار فاحلقوا أو قصروا واذبحوا أو انحروا هداياكم وقد حل لكم ما عدا النساء والصيد، ثم امضوا من يومكم (إلى) طواف (الإفاضة) وقد حل لكم كل شيء حتى النساء والصيد. (ثم أذن) بالبناء للمفعول (وأقيم): أي ثم يؤذن المؤذن لصلاة الظهر ويقيم الصلاة (بعد الفراغ) من خطبته (وهو): أي الإمام (جالس على المنبر و) سن (جمع الظهرين) جمع تقديم حتى لأهل عرفة (و) سن (قصرهما) إلا لأهل عرفة بأذان ثان وإقامة للعصر من غير تنفل بينهما.
ومن فاته الجمع مع الإمام جمع في رحله. وهذه الشعائر والخطبة على الوجه الذي مر مقامه - بفضل الله - في هذه الأزمنة كما شاهدنا ذلك يقيمها أهل مكة وغالب الأعاجم من الأروام والبرابرة وأما غيرهم فلا، ولو حج مراراً كثيرة، حتى أمير الحج المصري أو الشامي، وكثير من العوام لا يعلمون أن بعرفة مسجداً من أصله، وذلك أن شأن الحج النزول بقرب جبل الرحمة شرقي عرفة ومسجدها في جهتها الغربية، وبينهما مسافة وفيها أشجار وكلأ، فقل أن يتنبه الغافل لرؤية المسجد، إلا أنهم يتمون الصلاة لكون الإمام حنفياً. وأمر الحرمين منوط بأمر السلطان وهو حنفي.
(وندب وقوف) بعد صلاة الظهرين (بجبل الرحمة): مكان معلوم شرقي عرفة عند الصخرات العظام، وهناك قبة يسميها العوام قبة أبينا آدم (متوضئاً) لأنه من أعظم المشاهد وليس الوضوء بواجب للمشقة.
(و) ندب الوقوف (مع الناس): لأن في جمعهم مزيد الرحمة والقبول (و) ندب (ركوبه به): أي الوقوف؛ أي في حالة وقوفه (فقيام) على قدميه، (إلا لتعب) فيجلس. (و) ندب (دعاء) بما أحب من خيري الدنيا والآخرة (وتضرع): أي خشوع وابتهال إلى الله تعالى، لأنه أقرب للإجابة (للغروب) فيدفعون إلى مزدلفة.
(وسن جمع العشاءين بمزدلفة) بأن تؤخر المغرب لبعد مغيب الشفق فتصلى مع العشاء فيها، وهذا إن وقف مع الناس ودفع معهم وإلا فسيأتي حكمه. (و) سن (قصر) للعشاء لجميع الحجاج (إلا أهلها) فيتمونها (كمنى وعرفة) أي كأهلهما في محلهما فيتمون ويقصر غيرهم. والحاصل: أن أهل كل محل من مكة ومنى ومزدلفة وعرفة
ــ
قوله: [وذهب بعض الأئمة كالشافعي] إلخ: أي فمن وقف نهاراً فقط كفى عند الشافعي، ومن وقف ليلاً فقط كفى عند مالك والشافعي، ولزمه دم عند مالك لفوات النهار.
قوله: [بعد الزوال]: فلو خطب قبله وصلى بعده أو صلى بغير خطبة أجزأه إجماعاً.
قوله: [ويقال مسجد نمرة أيضاً]: ويقال مسجد عرنة بالنون أيضاً كما تقدم.
قوله: [وأن يقصروهما للسنة]: أي فإن السنة جاءت بالقصر في تلك الأماكن، وإن لم تكن المسافة أربعة برد، فلذلك يسن لأهل مكة القصر في عرفة ومنى ومزدلفة وكذلك جميع أهل تلك الأماكن يقصرون في غير وطنهم كما سيأتي يصرح بذلك قوله: [إلا أهل عرفة فيتمون]: ويقال مثل ذلك في منى ومزدلفة.
قوله: [وتلتقطون منها الجمرات]: يعني حصيات جمرة العقبة لا كل الجمرات، فإن باقيها تلتقط من منى كما يأتي.
قوله: [ثم تبيتون بها]: أي ندباً لأن هذه الكيفية التي بينها بعضها واجب وبعضها سنة وبعضها مندوب، وسيأتي إيضاح ذلك مفصلاً.
قوله: [وقد حل لكم كل شيء حتى النساء] إلخ: أي فهو التحلل الأكبر. وما قبله تحلل أصغر كما يأتي.
قوله: [بأذان ثان]: أي كما هو مذهب المدونة قال في الجلاب وهو الأشهر وقيل بأذان واحد، وبه قال ابن القاسم وابن الماجشون وابن المواز.
قوله: [جمع في رحله]: فإن تركه فلا شيء عليه، وقيل عليه دم حكاه في اللمع واستبعده القرافي.
قوله: [وهناك قبة] إلخ: قيل هي محل التقاء آدم مع حواء بعد هبوطهما من الجنة، ولذلك سمي عرفات لتعارفهما في تلك البقعة.
قوله: [وندب ركوبه به]: أي لوقوفه - عليه السلام - كذلك، ولكونه أعون على مواصلة الدعاء وأقوى على الطاعة، ويحمل النهي في قوله - عليه الصلاة والسلام -: «لا تتخذوا ظهور الدواب كراسي» على ما إذا حصل مشقة أو هو مستثنى من النهي.
قوله: (إلا لتعب) أي: من القيام، ومثله التعب للدابة أو من ركوبها أو من إدامة الوضوء.
قوله: [دعاء بما أحب]: أي بأي دعاء كان ويندب ابتداؤه بالحمد والصلاة على النبي، ثم أفضله دعوات القرآن وما جرى مجراه من الدعوات النبوية والدعوات المأثورة عن السلف وأهل العرفان.
قوله: [جمع العشاءين بمزدلفة]: سميت بذلك لأخذها من الازدلاف وهو التقرب؛ لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات تقربوا بالمضي