وقد اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: ٢١٠]، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا.الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وقد ذكره الإمام البغوي في " معالم التنزيل " (١/ ٢٦٩) قائلا:" وَالْأَوْلَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا شَاكَلَهَا أَنْ يُؤْمِنَ الْإِنْسَانُ بِظَاهِرِهَا وَيَكِلَ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ اسمه - منزّه عن سمات الحدوث، عَلَى ذَلِكَ مَضَتْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ وَعُلَمَاءُ السُّنَّةِ.قَالَ الْكَلْبِيُّ: هَذَا من العلم المكتوم الذي لا يُفسر، والله أعلم بمراده منه.وَكَانَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، يَقُولُونَ فيه وفي أمثاله: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ.قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ فَتَفْسِيرُهُ: قِرَاءَتُهُ وَالسُّكُوتُ عنه، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ."الْوَجْهُ الثَّاني: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ على سبيل التفصيل، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، وقد ذكر هذه الوجوه الإمام أبو حيان في " البحر المحيط " (٢/ ٣٤٣) حيث قال:" أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِتْيَانٌ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ.الثَّانِي: أَنَّهُ عبر به عن المُجازاة لَهُمْ، وَالِانْتِقَامِ، كَمَا قَالَ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: ٢٦]، {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: ٢].الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقُ الْإِتْيَانِ مَحْذُوفًا، أَيْ: أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ.الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: أَمْرُ اللَّهِ، بِمَعْنَى: مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِمْ - لَا الْأَمْرُ الَّذِي مُقَابِلُهُ النَّهْيُ -، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ.الْخَامِسُ: قُدْرَتُهُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ أَحْمَدَ.السَّادِسُ: أَنَّ فِي ظُلَلٍ، بِمَعْنَى بِظُلَلٍ، فَيَكُونُ: فِي، بِمَعْنَى: الْبَاءِ، قَالَه الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ.[ثم قال]: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَمْرُ اللَّهِ، إِذْ قَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: ٣٣]، وَتَكُونُ عِبَارَةً عَنْ بَأْسِهِ وَعَذَابِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مَجِيءَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.السابع: الْمَحْذُوفُ: آيَاتُ اللَّهِ، فَجَعَلَ مَجِيءَ آيَاتِهِ مَجِيئًا لَهُ عَلَى التَّفْخِيمِ لِشَأْنِهَا.الثامن: الْخِطَابُ مَعَ الْيَهُودِ، وَهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مع اليهود قوله بَعْدُ: {سَلْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ} [البقرة: ٢١١]، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، فَالْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، إِذِ الْمَعْنَى: أَنَّ قَوْمًا يَنْتَظِرُونَ إِتْيَانَ اللَّهِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ وَلَا مُبْطِلُونَ." انتهى كلام أبي حيان.وقد ذكر الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب " (٥/ ٣٥٦) هذه الوجوه الثمانية بالتفصيل، ثم اختار الوجه الثامن قائلا: " وَهُوَ أَوْضَحُ عِنْدِي مِنْ كُلِّ مَا سَلَفَ."
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute