للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهو يعرف حق المعرفة صفاتها -صفات الكمال- فلم تدع شيئاً من حياته إلّا حكمته ولم يدع شيئاً من أحكامها إلاّ خضع له، فكانت الشريعة الثابتة الشاملة وكان الجيل القدوة لكل الأجيال:

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (١).

نعم لو شاء الله سبحانه لهدى الناس أجمعين، ولكنه أراد أن يبتلي عباده ويختبرهم ليكون الجزاء على ما يقع منهم .. وجعل الهداية محتاجة من الإِنسان إلى تسبب يقع منه فبقدر ما يبذل البشر من جهد للاستقامة وبقدر ما يصبرون عليها يكون نصيبهم منها، ولقد بلغ الصحابة - رضوان الله عليهم - في بذل الجهد والصبر على الاستقامة والمحافظة عليها مبلغاً لم يبلغه جيل آخر من أجيال المسلمين، فكان لهم من السلامة في الاعتقاد وإقامة الخلافة ما جعلهم قدوة لمن بعدهم، بل وجعلهم الحجة على الخلق بعد كتاب الله وسنة رسوله (٢)، ولقد نعلم أن خيار هذه الأمة سلّموا الأمانة كاملة إلى الجيل الذي بعدهم .. وما زالت الأمة في سلامة في الاعتقاد مجتمعة على إقامة الخلافة في الأرض .. حتى بزغت الأهواء - عند قوم لا خلاق لهم جاءتهم تلك الأمانة - وهم لم يجهدوا فيها شيئاً فردوها ولم يأخذوها نقية صافية فالتفتوا إلى مناهج أخرى يلتمسون فيها النور والحق، بهرهم زخرفها فوقعوا في مخالفة الصحابة واستدبروا منهج الصفاء والنقاء الرباني الذي عاش عليه ذلك الجيل القدوة وهو يتعرف على صفات إلآهه ومعبوده، ومن ثم يتعرف على صفات شريعته .. فأصابهم من الضلال ما جعل تفكيرهم سفسطة وجدلاً، وحياتهم من ثم مزرعة للبدع ومتاهة يضيع فيها الجهد النفسي والعقلي ولتكون نقلتهم الأخيرة نقلة بعيدة عن منهج التلقي عند الجيل الأول، استقر عليها بعد ذلك مسلكهم في التربية والتأليف .. وكان على قمة القيادة لأهل الأهواء -في هذا الشأن- طائفة المعتزلة، ولم يلتفتوا إلى مثل قوله تعالى:


(١) سورة الأنعام: آية ١٤٩.
(٢) وذلك ما ورد في أمر الله لنا بأن نكون معهم كما سيأتي بيانه.

<<  <   >  >>