نعم هذا هو الواقع المعلوم الممتد من زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن واسمع للإِمام الشاطبي يُبين هذا في عبارة رصينة مستدلاً به على عصمة الشريعة وحفظها من التبديل والتغيير، فيقول: "الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن، وذلك أن الله وفّر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل:
أمّا القرآن الكريم فقد قيّض الله له حفظه بحيث لو زِيدَ فيه حرف واحد لأخرجه الآلاف من الأطفال الأصاغر فضلاً عن المَراء الأكابر، وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيّض الله لكل علم رجالاً حَفِظَهُ على أيديهم، فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة في لسان العرب حتى قرروا لغات الشريعة في القرآن والحديث وهو الباب الأول مر أبواب الشريعة إذْ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب.
ثم قيض رجالًا يبحثون عنِ تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعاً ونصباً وجراً وجزماً وتقديماً وتأخيراً وإبدالاً وقلباً واتباعاً وقطعاً وإفراداً إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الِإفراد والتركيب، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان، فسهّلَ الله بذلك الفهم عنه في كتابه وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - في خطابه.
ثم قيّض الحق سبحانه رجالاً يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة حتى ميّزوا بين الصحيح والسقيم وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان من فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة من البدعة ناساً من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتاباً وسنة، وعما كان عليه السلف الصالحون وداوم عليه الصحابة والتابعون، وردوا على أهل البدع والأهواء حتى تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى.