ويبدو أن تحديد هذه التخصصات إنما جاء ليخدم وينظم الانتشار الواسع للعلم في الآفاق ويبقى بعد ذلك المعنى الأول للفقه هو المعنى الحقيقي المعتبر من الناحية الشرعية والعملية، فإنه من المقطوع به استحالة وجود فقيه من غير علم بالحديث وعلم بالعقيدة، كما أنه يستحيل وجود محدَّث بلا علم بالاعتقاد وفقه في الدين ... والمعنى الأول عند المتقدمين هو الذي خدم العلم وجعل نفعه عميماً على العلماء والأمة، فكان أمثال مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة لهم في كل ذلك نصيب وافر وإن تفاوتوا في ذلك، وكان نفعهم للأمة عظيماً، لأن تربية الأمة وتعليمها لا يكون إلّا من ربانيين أخذوا من كل ذلك بنصيب وافر، وتتفاوت أقدارهم وآثارهم في الأمة بقدر نصيبهم من صفاء الاعتقاد وقوة الفقه في الدين وجَمْعِ مفردات العلم هذا من ناحية التربية والتعليم، أما من ناحية الدراسة والبحث والدعوة إلى الله والمجادلة بالتي هي أحسن والذب عن الدين فإنّ الأمر أشد ضرورة، فإنه لا يستطيع ذلك إلّا من اطّلَعَ على ما يُحتاج إليه من الحديث والفقه ومسائل العقيدة وأصول الفقه، وخذ مثالًا على ذلك، دراسة موضوع "الثبات والشمول في الشريعة" فإنه مرتبط بمسائل العقيدة والأصول والفقه، وتمتنع دراسته من ناحية فقهية بحتة كما هو مفهوم "الفقه" عند المتأخرين، بل لا تستقيم دراسته إلّا على مقدمات عقدية وأصولية والسنة المطهرة قاعدة من قواعده. ومن المعلوم أن تجديد الدين والجهاد في نشر تعاليمه وإصلاح آخر هذه الأمة لا يكون إلّا بمراعاة المعنى العام "للفقه" لأن ذلك ضرورة للتربية والبيان .. ولذلك كان المجددون يأخذون العلم بهذا الشمول، وهذا الذي ينبغي أنْ ينتبه إليه كثير من المشتغلين بالدراسات الإِسلامية، وذلك كله لا يمنع من استبقاء التخصصات للحفاظ على القوة العلمية، ومراعاة انتشار العلم وسعة أطرافه، ولكنه مع ذلك لا يصلح سبباً لبعد العالم والمتعلم عن المعنى الأول للفقه، لأنه لا يتحقق فقه في الدين إلّا باتباع السنة في الاعتقاد والعمل.