وَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَأْتِي قَوْلُهُ:
... وَالْحُكْمُ قَبْلَ أَجَلٍ لَا يَخْتَلِفْ
وَالْمِثْلُ مَطْلُوبٌ وَذُو اعْتِبَارِ ... فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ
يَعْنِي أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي يُرَادُ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا وَلَمْ يَحِلَّ أَجَلُهُ، فَإِنَّ حُكْمَ اقْتِضَائِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْجَوَازِ. وَالْمَنْعِ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ مُطْلَقًا لَكِنْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَهِيَ حَيْثُ يُمَاثِلُ هَذَا الدَّيْنَ الْمَقْضِيَّ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ، وَإِذَا مَاثَلَهُ فِيمَا ذَكَرَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ كَانَ عَيْنًا، أَوْ عَرَضًا حَلَّ الْأَجَلُ أَوْ لَمْ يَحِلَّ، ثَمَانِ صُوَرٍ كُلُّهَا جَائِزَةٌ، دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ:
وَالْحُكْمُ قَبْلَ أَجَلٍ لَا يَخْتَلِفْ ... وَالْمِثْلُ مَطْلُوبٌ وَذُو اعْتِبَارِ
إلَخْ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا قَيَّدَهُ بِقَبْلَ الْأَجَلِ لِيُقَابِلَ بِهِ مَا بَعْدَ الْأَجَلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ:
وَالْعَيْنُ فِيهِ مَعَ بُلُوغٍ أَجَلَا
وَفِي قَوْلِهِ: " وَغَيْرُ عَيْنٍ بَعْدَهُ " أَيْ بَعْدَ الْأَجَلِ، وَفِي قَوْلِهِ: " بَعْدَ الْأَمَدِ ". وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالْمِثْلُ مَطْلُوبٌ وَذُو اعْتِبَارِ
.. إلَخْ أَنَّهُ إذَا قَضَى قَبْلَ الْأَجَلِ بِغَيْرِ الْمِثْلِ، بَلْ بِأَقَلَّ صِفَةً أَوْ قَدْرًا، أَوْ بِأَكْثَرَ صِفَةً أَوْ قَدْرًا، لَا يَكُونُ جَائِزًا مُطْلَقًا، بَلْ مِنْهُ جَائِزٌ وَمِنْهُ مَمْنُوعٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّقْسِيمِ.
قَوْلُهُ:
وَالْعَيْنُ فِيهِ مَعَ بُلُوغٍ أَجَلَا ... صَرْفٌ وَمَا تَشَاؤُهُ إنْ عُجِّلَا
هَذَا شُرُوعٌ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ الِاقْتِضَاءُ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَتَقَدَّمَ فِي التَّقْسِيمِ أَنَّهُ يَتَنَوَّعُ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا بِاعْتِبَارِ الِاقْتِضَاءِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّ النَّاظِمَ تَكَلَّمَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ، وَأَنَّهُ نَوَّعَ الِاقْتِضَاءَ بَعْدَ الْأَجَلِ، إلَى كَوْنِ الدَّيْنِ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا، وَنَوَّعَ الْعَرَضَ إلَى كَوْنِهِ مِنْ سَلَفٍ، أَوْ بَيْعٍ، فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ عَيْنًا ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً، وَحَلَّ أَجَلُهُ ثُمَّ قَضَى عَنْهُ عَيْنًا مُخَالِفًا لِجِنْسِ الدَّيْنِ، بِحَيْثُ قَضَى ذَهَبًا عَنْ وَرِقٍ، أَوْ وَرِقًا عَنْ ذَهَبٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ صَرْفٌ وَهُوَ جَائِزٌ فِي فَرْضِنَا مِنْ كَوْنِ الِاقْتِضَاءِ بَعْدَ حُلُولِ أَجَلِ الدَّيْنِ، لِأَنَّ صَرْفَ مَا فِي الذِّمَّةِ جَائِزٌ بِشَرْطِ الْحُلُولِ، فَقَوْلُهُ: " صَرْفٌ " هُوَ عَلَى حَذْفِ الصِّفَةِ، أَيْ جَائِزٌ.
وَدَلِيلُ حَذْفِهَا قَوْلُهُ: " مَعَ بُلُوغٍ أَجَلَا " وَلِأَنَّ الِاسْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْكَامِلِ مِنْ مُسَمَّاهُ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مَعَ بُلُوغٍ أَجَلَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَحِلَّ مَمْنُوعٌ وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَرْفٌ بِتَأْخِيرٍ فَقَوْلُهُ: " وَالْعَيْنُ فِيهِ " الضَّمِيرُ لِلْعَيْنِ أَيْ وَقَضَاءُ الْعَيْنِ عَنْ الْعَيْنِ، فَفِي بِمَعْنَى عَنْ، وَالْعَيْنُ الْأَوَّلُ - هُوَ الْمَدْفُوعُ قَضَاءً، وَالثَّانِي الْمُكَنَّى عَنْهُ بِالضَّمِيرِ مِنْ الْمُتَرَتَّبِ فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ
وَغَيْرُ عَيْنٍ بَعْدَهُ مِنْ سَلَفِ
.. إلَخْ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ فِيمَا هُوَ مِنْ سَلَفٍ أَوْ بَيْعٍ، إنَّمَا هُوَ فِي الْمُتَرَتِّبِ فِي الذِّمَّةِ قَطْعًا، وَفُهِمَ مِنْ إطْلَاقِهِ فِي الْعَيْنِ الْمُتَرَتِّبِ فِي الذِّمَّةِ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي كَوْنِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ سَلَفٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: " وَمَا تَشَاؤُهُ إنْ عَجَّلَا ". يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى عَنْ الدَّيْنِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْعَيْنِ، مِمَّا يَشَاؤُهُ الْمُتَعَامِلَانِ، بِشَرْطِ تَعْجِيلِ ذَلِكَ الْمَقْضِيِّ؛ لِئَلَّا يَكُونَ فَسْخَ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقْضِيَ عَنْ الْعَيْنِ ثَوْبًا، وَعَنْ الثَّوْبِ الْحَرِيرِ ثَوْبَ كَتَّانٍ مَثَلًا وَنَحْوُ ذَلِكَ، بِشَرْطِ أَنْ يُعَجَّلَ ذَلِكَ الْمَقْضِيُّ أَيْضًا.
وَقَدْ اشْتَمَلَ هَذَا الْبَيْتُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ، الَّتِي ذَكَرَ فِي الِاقْتِضَاءِ بَعْدَ الْأَجَلِ الْأُولَى مِنْ صَرْفِ الدَّيْنِ وَالثَّانِيَةُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ، عَلَى أَنَّ صَرْفَ الدَّيْنِ هُوَ بَيْعٌ لَهُ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ:
وَغَيْرُ عَيْنٍ بَعْدَهُ مِنْ سَلَفِ ... خُذْ فِيهِ مِنْ مُعَجَّلٍ مَا تَصْطَفِي
تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ، أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِغَيْرِ الْجِنْسِ، فَيَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ الْجِنْسِ؛ فَيَكُونُ اقْتِضَاءً حَقِيقِيًّا، وَعَلَى الثَّانِي فَالْمُرَادُ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ غَيْرَ عَيْنٍ، بَلْ كَانَ عَرَضًا أَوْ طَعَامًا، وَكَانَ هَذَا الدَّيْنُ تَرَتَّبَ مِنْ سَلَفِ إحْسَانٍ وَتَوْسِعَةٍ، لَا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِمَا شَاءَهُ الْمُسَلِّفُ وَالْمُتَسَلِّفُ مَعًا، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ النَّاظِمُ إنَّمَا خَاطَبَ الْمُسَلِّفَ فَقَطْ بِقَوْلِهِ: " خُذْ " فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، لَكِنْ إذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، لَا يَجُوزُ ذَلِكَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، لِمَا فِيهِ مِنْ (ضَعْ) وَتَعَجَّلْ، وَيَجُوزُ بِأَفْضَلَ صِفَةً حَلَّ أَوْ لَمْ يَحِلَّ، وَلَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ قَدْرًا حَلَّ الْأَجَلُ أَوْ لَمْ يَحِلَّ.
فَقَوْلُهُ: " مَا تَصْطَفِي " يَعْنِي - كَمَا ذَكَرْنَا - إمَّا مِنْ مِثْلِ دَيْنِك وَلَا إشْكَالَ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ صِفَةً أَوْ قَدْرًا إنْ حَلَّ الْأَجَلُ، أَوْ أَفْضَلَ صِفَةً حَلَّ الْأَجَلُ أَوْ لَا، وَالْمَأْخُوذُ مُعَجَّلٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِقَوْلِهِ: " مِنْ مُعَجَّلٍ " وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ فَمَعْنَاهُ خُذْ مَا شِئْت مِمَّا يُخَالِفُ دَيْنَكَ فِي الْجِنْسِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ؛ فَلَا عَلَيْكَ فِي الْمِقْدَارِ وَالْأَجَلِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -، وَقَوْلُهُ: " وَإِنْ يَكُنْ مِنْ سَلَمٍ " هُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي الْبَيْتِ قَبْلَهُ: " مِنْ سَلَفٍ " وَيَعْنِي أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي أُرِيدَ قَضَاؤُهُ إذَا كَانَ تَرَتَّبَ مِنْ بَيْعٍ