للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمُدَّعٍ عَلَى امْرِئٍ أَنْ سَرَقَهْ ... وَلَمْ تَكُنْ دَعْوَاهُ بِالْمُحَقَّقَهْ

فَإِنْ يَكُنْ مُدَّعِيًا ذَاكَ عَلَى ... مَنْ حَالُهُ فِي النَّاسِ حَالُ الْفُضَلَا

فَلَيْسَ مِنْ كَشْفٍ لِحَالِهِ وَلَا ... يَبْلُغُ بِالدَّعْوَى عَلَيْهِ أَمَلَا

وَإِنْ يَكُنْ مُطَالِبًا مِنْ يُتَّهَمْ ... فَمَالِكٌ بِالضَّرْبِ وَالسَّجْنِ حَكَمْ

يَعْنِي أَنَّ مَنْ سُرِقَ لَهُ مَالٌ فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ وَلَمْ يُحَقِّقْ عَلَيْهِ الدَّعْوَى وَإِنَّمَا كَانَتْ تُهْمَةً فَقَطْ وَالتُّهْمَةُ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ هِيَ الدَّعْوَى الَّتِي لَا تُحَقَّقُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. هَذَا ظَاهِرُ لَفْظِ الشَّيْخِ وَفَسَّرَ الشَّارِحُ قَوْلَهُ:

وَلَمْ تَكُنْ دَعْوَاهُ بِالْمُحَقَّقَهْ

لِكَوْنِ الدَّعْوَى لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ بَعِيدًا عَنْ التُّهْمَةِ بِمِثْلِ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُكْشَفُ عَنْ حَالِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ لِهَذِهِ الدَّعْوَى لِبُعْدِهَا عَادَةً زَادَ الشَّارِحُ: وَعَدَمُ تَحْقِيقِهَا عَلَيْهِ وَلَا تُفِيدُ مُدَّعِيَهَا شَيْئًا.

وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَالْحُكْمُ أَنْ يُسْجَنَ حَتَّى يُخْتَبَرَ حَالُهُ وَقَدْ يُشَدَّدُ عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ بِحَسَبِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرَائِنُ الْحَالِيَّةُ مِنْ شُهْرَةِ تُهْمَتِهِ وَثُبُوتِ مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ سَرِقَةً وَاتَّهَمَ بِهَا مَنْ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ وَلَا يُتَّهَمُ فَلَا يُكْشَفُ، وَأَمَّا أَهْلُ التُّهَمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُكْشَفُوا وَيُسْتَقْصَى عَلَيْهِمْ وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ الضَّرْبُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالْعُلَمَاءِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ يُونُسَ مِنْ كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ قَالَ: وَمَنْ جَاءَ إلَى الْوَالِي بِرَجُلٍ فَقَالَ: سَرَقَ مَتَاعِي فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ مُتَّهَمًا هُدِّدَ وَامْتُحِنَ وَحُلِّفَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ وَفِيهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قُلْتُ لِمُطَرِّفٍ فِيمَنْ سُرِقَ لَهُ مَتَاعٌ فَاتَّهَمَ مِنْ جِيرَانِهِ رَجُلًا غَيْرَ مَعْرُوفٍ أَوْ اتَّهَمَ رَجُلًا غَرِيبًا لَا يُعْرَفُ حَالُهُ أَيُسْجَنُ حَتَّى يُكْشَفَ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَا يُطَالُ سَجْنُهُ.

وَذَكَرُوا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا اتَّهَمَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ بِسَرِقَةِ بَعِيرِهِ وَقَدْ صَحِبَهُ فِي السَّفَرِ» قَالَ مُطَرِّفٌ وَإِنْ كَانَ الْمُتَّهَمُ بِالسَّرِقَةِ مَعْرُوفًا بِهَا كَانَ سَجْنُهُ أَطْوَلَ وَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ مَعَ ذَلِكَ بَعْضُ السَّرِقَةِ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ. وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ غَيْرُ مَا فِي يَدَيْهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ، حَبَسَهُ وَكَشَفَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ حَبَسَهُ أَبَدًا حَتَّى يَمُوتَ فِي السِّجْنِ. وَقَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ وَفِيهِ أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ يُسْجَنُ بِقَدْرِ رَأْيِ الْإِمَامِ ثُمَّ يُعَاقَبُ وَيُسَرَّحُ وَلَا يُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ. قَالَ أَشْهَبُ إذَا شُهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فَإِنَّهُ يُسْجَنُ بِقَدْرِ مَا اُتُّهِمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى قَدْرِ حَالِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُجْلَدُ بِالسَّوْطِ مُجَرَّدًا.

اهـ نَقْلُ الشَّارِحِ فَانْظُرْ قَوْلَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَاتُّهِمَ بِهَا مَنْ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ. وَقَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ لِمُطَرِّفٍ: فَاتَّهَمَ مِنْ جِيرَانِهِ رَجُلًا غَيْرَ مَعْرُوفٍ أَوْ اتَّهَمَ رَجُلًا غَرِيبًا وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا اتَّهَمَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ بِسَرِقَةِ بَعِيرِهِ. وَقَوْلَ مُطَرِّفٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَّهَمُ بِالسَّرِقَةِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِهَا. وَقَوْلَ أَشْهَبَ يُسْجَنُ بِقَدْرِ مَا اُتُّهِمَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ دَعْوَى السَّرِقَةِ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ وَأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ اتَّهَمَ رَجُلًا وَلَمْ يَجْزِمْ بِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي سَرَقَ مَتَاعَهُ وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِ الشَّارِحِ فِي حَلِّ كَلَامِ النَّاظِمِ وَعَدَمِ تَحْقِيقِهَا عَلَيْهِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ ابْنِ يُونُسَ مَنْ جَاءَ إلَى الْوَالِي بِرَجُلٍ فَقَالَ: سَرَقَ مَتَاعِي أَنَّ الدَّعْوَى مُحَقَّقَةٌ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمُتَّهَمُ بِالسَّرِقَةِ أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّرِقَةُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

وَحَكَمُوا بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ ... مِنْ ذَاعِرٍ يُحْبَسُ لِاخْتِبَارِ

يَعْنِي أَنَّ مَنْ ادَّعَى السَّرِقَةَ عَلَى الْمَعْرُوفِ بِهَا وَبِالذِّعَارَةِ فَحُبِسَ لِاخْتِبَارِ حَالِهِ فَأَقَرَّ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ وَلَيْسَ مِنْ الْإِقْرَارِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَلْزَمُهُ فَفِي مُعِينِ ابْنِ عَبْدِ الرَّفِيعِ عَنْ سَحْنُونٍ وَإِذَا رُفِعَ لِلْقَاضِي رَجُلٌ يُعْرَفُ بِالسَّرِقَةِ وَالذِّعَارَةِ وَادَّعَى ذَلِكَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَحَبَسَهُ لِاخْتِبَارِ ذَلِكَ فَأَقَرَّ فِي السِّجْنِ بِمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ يَلْزَمُهُ وَهَذَا الْحَبْسُ خَارِجٌ مِنْ الْإِكْرَاهِ. (وَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) : مَنْ أُخِذَ فِي تُهْمَةِ قَتْلٍ فَاعْتَرَفَ عِنْدَ السُّلْطَانِ بِغَيْرِ ضَرْبٍ ثُمَّ أَخْرَجَ الْمَقْتُولَ مِنْ بِئْرٍ أَوْ مَدْفِنٍ وَجَاءَ بِسَلَبِهِ فَلَمَّا أُمِرَ بِهِ لِيُقْتَلَ، قَالَ: مَا قَتَلْتُهُ وَلَكِنْ رَأَيْتُ مَنْ قَتَلَهُ. قُتِلَ وَلَا يَنْفَعُهُ إنْكَارُهُ وَكَذَلِكَ السَّارِقُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ فَلَا يَنْفَعُهُ رُجُوعُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>