ومنه قول الصّحابيِّ: «كنا نفعل» ما لم يُضفه إلى النَّبيِّ ﷺ، فإن أضافه إليه نحو قول جابرٍ: «كنَّا نعزل على عهد رسول الله ﷺ» فمن قَبِيلِ المرفوع، وإن كان لفظه موقوفًا؛ لأنَّ غرضَ الرَّاوي بيانُ الشَّرع وقِيلَ: لا يكون مرفوعًا.
وقول الصَّحابيِّ: «من السُّنّة كذا» أو «أُمِرْنا»؛ بضمِّ الهمزة، أو «كنَّا نُؤمَر» أو «نُهِينا» أو «أُبِيحَ» فحكمه الرَّفع أيضًا، كقول الصَّحابيِّ: «أنا أشبهكم صلاةً به ﷺ»، وكتفسيرٍ تعلَّق بسبب النُّزول،
قوله: (وَمِنْهُ قوْلُ الصَّحَابِيِّ … ) إلى آخره؛ أي: سواءٌ قاله في حياته ﷺ أو بعدها.
وقوله: (كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا)؛ أي: أو نقول، أو نرى كذا.
وقوله: (ما لم يضفه إلى النَّبيِّ ﷺ؛ أي: إلى زمنه، كأنْ يقول: كنا نفعل كذا في زمن النَّبيِّ ﷺ، وما ذهب إليه الشارح مِن أنَّ ما لم يُضف له ﷺ من الموقوف، هو ما حكاه النووي في «شرح مسلم» عن الجمهور من المحدثين والفقهاء والأصوليين، وأطلق الحاكم والرازي والآمدي أنَّه مرفوع، وقال ابن الصبَّاغ: إنَّه الظاهر، ومثَّله بقول عائشة «كَانَتْ اليَدُ لَا تُقْطَعُ فِيْ شَيءٍ مِنَ التَّافِهِ»، وحكاه النووي في «شرح المهذب» أيضًا عن كثير من الفقهاء، ثم قال: وهو قوي من حيث المعنى. وصحَّحه العراقي وشيخ الإسلام.
قوله: (لِأَنَّ غَرَضَ الرَّاوِي … ) إلى آخره؛ أي: ولأنَّ ظاهرَ ذلك مُشْعِرٌ بأنَّ رسول الله ﷺ اطلع على ذلك وأَقَرَّهُم عليه؛ لتوفر دواعيهم على سؤالهم عن أمور دينهم، وتقريرهُ ﷺ أحد وجوه السنن المرفوعة.
قوله: (بَيَانُ الشَّرْعِ)؛ أي: لا اللغة ولا العادة، والشرعُ يُتلقى من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فمراد جابر بقوله: (كنا نعزل … ) إلى آخره، أنَّ العزل جائز شرعًا لفعلهم إياه في زمنه ﷺ مع إقراره إياهم عليه، وإقْرَارُه ﷺ حكمٌ شرعيٌّ، وكذا قول الصحابي: أُمِرْنَا بكذا، إذ لا يصحُّ أن يُريد بقوله: (أُمرنا)؛ أي: أمرنا الكتابُ؛ لكون ما في الكتاب مشهورًا يعرفه الناس، ولا الإجماع؛ لأنَّ المتكلم بذلك من أهل الإجماع ويستحيل أمره نفسه، ولا القياس؛ إذ لا أمر فيه، فتعيَّن كون المراد أَمْرُ الرسول ﷺ؛ ولأنَّ مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى مَن له الأمر والنهي، ويجب اتباع أمره، وذلك هو الرسول ﷺ.
قوله: (وَقِيْلَ لَاْ يَكُوْنُ مَرْفُوْعًا)؛ أي: بل موقوفٌ، وهو قول الإسماعيلي، وهو بعيدٌ جدًا، والأول هو الصحيح الذي قطع به الجمهور من أهل الحديث والأصول، وفَصَّلَ بعضهم فقال: إنْ كان هذا الفعل ممَّا لا يخفى غالبًا كان مرفوعًا، وإلَّا كان موقوفًا.
قال في «شرح التقريب»: ومحل ذلك الخلاف ما لم يكن في القصة تصريحٌ باطِّلاعه ﷺ، وإلَّا فمرفوع إجماعًا، كقول ابن عمر: «كُنَّا نَقُوْلُ وَرَسْوْلُ الله ﷺ حَيٌّ: أَفْضَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُوْ بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَيَسْمَعُ ذَلِكَ رَسُوْلُ الله ﷺ فَلَا يُنْكِرُهُ»، رواه الطبراني.
قوله: (مِنَ السُّنَّةِ كَذَا)؛ أي: كقول علي ﵁: «مِنَ السُّنَّةِ وَضْعُ الكَفِّ عَلَى الكَفِّ فِي الصَّلَاةِ تَحْتَ السُّرَّةِ» رواه أبو داود.
وقوله: (أَوْ أُمِرْنَا)؛ أي: بكذا، كقول أم عطية: «أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ في الْعِيدِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ وَأُمِرَ الْحُيَّضُ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ»، أخرجه الشيخان.
وقوله: (أَوْ نُهِيْنَا)؛ أي: كقولها: «نُهِيْنَا عن اتِّبَاعَ الجَّنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا»، أخرجه الشيخان أيضًا. فكلُّ ذلك حكمه الرفع على الصحيح؛ لأنَّهم إذا أطلقوا السنة فمرادهم سنة النبي ﷺ، ولا نظر لما قيل: يحتمل أن يكون المراد سنة غيره فإنَّه بعيد، والأصل الأول.
وأما قول بعضهم: إن كان مرفوعًا فلم لا يقولون فيه: قال رسول الله ﷺ، فمدفوعٌ بأنَّهم تركوا ذلك تورعًا واحتياطًا، وكذا يُقال في احتمال أن يكون الآمر في أمرنا غيره ﷺ كالقرآن، ثم مثل قوله: (من السنة كذا) قوله: سنة أبي القاسم، أو سنة نبينا ﷺ، أو أصبت السُنَّة، وقيل: كلُّ ذلك موقوف لما سبقَ مما علمت رَدَّهُ، ومحلُّ الخلاف إذا لم يصرِّح الصحابي بالآمر في نحو: أُمِرْنَا فإنْ صرَّح كقوله: «أَمَرَنَا رسول الله ﷺ» فلا خلاف في رفعه، إلَّا ما حُكي عن أبي داود وبعض المتكلمين أنَّه لا يكون حجة حتى ينقل لفظه، وهو ضعيف، بل باطلٌ؛ فإنَّ الصحابي عَدْل عارف باللسان فلا يطلق ذلك إلَّا بعد التحقيق، وخصَّ بعضهم الخلاف أيضًا بغير الصديق، أما هو فإنْ قال ذلك فمرفوع بلا خلاف، كما ذكره الحافظ السيوطي، قال: وكذا ما كان عن أبي هريرة، قال ابن سيرين: كلُّ شيءٍ حدثتُ عن أبي هريرة فهو مرفوع. انتهى. أقول: الظاهر أنَّ هذا خاص بما جاء من طريق ابن سيرين بقرينة إسناد ذلك لنفسه.
قوله: (كَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَنَا أُشْبَهُكُم … ) إلى آخره؛ أي: لأنَّه في قوَّةِ قوله: كان رسول الله ﷺ يصلي هكذا.
قوله: (تَعَلَّقَ بِسَبَبِ النُّزُوْلِ)؛ أي: نزول الآيات القرآنية، كقول جابر: «كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ: إذا أتى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ من دُبُرِهَا في قُبُلِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فأنزل الله تعالى: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ الآية [البقرة: ٢٢٣]»، رواه مسلم.
قال الحاكم في المستدرك: ليعلم طالب الحديث أنَّ تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مُسند. انتهى.