في قصَّة الجمل [خ¦٢٠٩٧]، وحديثه في وفاء دَين أبيه [خ¦٢١٢٧]، وحديث أبي هريرة في قصَّة ذي اليدين [خ¦٤٨٢] وربَّما يقع التَّنبيه على شيءٍ من هذه الأقسام في موضعه من هذا الشرح بتوفيق الله تعالى ومعونته. والذي في «البخاريِّ» من هذه الأقسام مئة حديثٍ وعشرة أحاديث، شاركه في كثيرٍ منها مسلمٌ، لا نطيل بسردها، وأمَّا الجواب عمَّن طُعِنَ فيه من رجال البخاريِّ فليعلم أنَّ تخريج صاحب الصَّحيح لأيِّ راوٍ كان مقتضٍ لعدالته عنده، وصحَّة ضبطه وعدم غفلته، مع ما انضاف لذلك من إطلاق جمهور الأمَّة على تسمية الكتابين بـ «الصَّحيحين»، وهذا معنًى لم يحصل لغير من خُرِّج عنه في «الصَّحيحين»، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذُكِرَ فيهما، ولا يُقبَل الطَّعن في أحدٍ من رواتهما إلَّا بقادحٍ واضحٍ؛ لأنَّ أسباب القدح -كما مرَّ- مختلفةٌ، ومداره هنا على خمسةٍ: البدعة أو المخالفة أو الغلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع بالسَّند؛ بأن يُدَّعَىَ في راويه أنَّه كان يدلِّس ويرسل.
فأمَّا البدعة؛ فالموصوف بها إن كان غير داعيةٍ قُبِل، وإلَّا فلا، وقال ابن دقيقٍ العيد: إن وافق غير الدَّاعية غيره فلا
فيما رواه قبلُ في زمن استقامته، فإنَّ الثقةَ إذا خلطَ لاختلال ضبطه بهرمٍ أو نحوه قُبِلَ حديثُ من أَخَذَ عنه قبل الاختلاط.
قوله: (فِيْ قِصَّةِ الجَمَلِ)؛ أي: جَمَلِهِ الذي اشتراهُ منه ﷺ فقد اختلفت الطرق فيها اختلافًا كثيرًا في مقدارِ الثمن، وفي اشتراط ركوبه، وروى البخاري الطرق التي فيها الاشتراط وعدمه، ورجح الأولى على الثانية، وروى كون الثمن غير أوقية وخرج كونه أوقية.
قوله: (وَحَدِيْثُهُ)؛ أي: جابر، إذ قال: «يَا رَسُوْلَ الله، إِنَّ أَبِي مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ … » الحديث. حيثُ وقعَ الاختلافُ فيه بتقديم بعضِ ألفاظه على بعض، وبتعيين الدَّين وإبهامه.
قوله: (فِيْ قِصَّةِ ذِيْ اليَدَيْنِ)؛ أي: حيثُ وقعَ فيهِ الاختلافُ في التَّقديم والتأخير وتبديل بعض الألفاظ بأخرى، ففي بعض الطُّرق: «أَنَسِيْتَ أَمْ قَصُرَت الصَّلَاةُ؟»، وفي بعضها: «أَقَصُرَت الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيْتَ؟»، وفي بعضها: «كلُّ ذلك لم يكن»، وفي بعضها: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَر»، إلى غير ذلك.
قوله: (وَالَّذِي فِيْ البُخَارِيِّ)؛ أي: ومُسلم.
وقوله: (مِنْ هَذِهِ الأَقْسَامِ)؛ أي: الستة المتقدمة.
وقوله: (مِئَةُ حَدِيْثٍ -كذا في نسخ، وصوابه: مئتا حديث بالتثنية- وعشرة) كما سلفَ.
وقوله: (شَارَكَهُ فِيْ كَثِيْرٍ … ) إلى آخره، ليسَ المرادُ أنَّه شاركه في روايته بل في الانتقاد بها، والمعنى أنَّهُمَا اشتركا في الانتقادِ عليهما في مجموع المئتي حديث وعشرة، ولكن البخاري لم يُخَرِّجْ مِنها إلَّا أقلَّ من ثمانين، كما سلفَ، والباقي خَرَّجَهُ مُسلم.
قوله: (فِيْ كَثِيْرٍ مِنْهَا) هو مئةٌ وثلاثون.
انظر ترجمة الذهلي في «سير أعلام النبلاء».
قوله: (وَأَمَّا الجَوَابُ عَمَّنْ طُعِنَ … ) إلى آخره، هذا غيرُ ما سبقَ في قوله: (وَأَمَّا الجَوَابُ عَمَّا انْتُقِدَ عَلَيْهِ … ) إلى آخره، فإنَّ ذلكَ في نفسِ الأحاديثِ وهذا في الرجال، ولِذَا عبَّرَ بلفظ (من) هنا، وبلفظ (ما) هناك.
قوله: (مِنْ إِطْلَاقِ جُمْهُوْرِ الأُمَّةِ) فيهِ ما سبقَ في قوله: (مَعَ إِطْلَاقِ جُمْهُوْرِ الأُمَّةِ) من أنَّ (على) زائدةٌ، أو أنَّ لفظ (إطلاق) مُحَرَّفٌ عن (إطباق).
قوله: (عَلَى تَعْدِيْلِ مَنْ ذُكِرَ فِيْهِمَا) محلُّهُ فيمنْ خرَّجَ له في الأصول، أمَّا مَنْ خرَّجَ له في المتابعات والشواهد والتعاليق فدرجاتهم متفاوتة في الضبط مع حصول اسم الصدق لهم كما سلف، وحينئذٍ فإذا وجدنا لغيره طَعنًا في أحدٍ منهم فذلك الطَّعن مقابلٌ لتعديل هذا الإمام بتخريجه له فلا يقبل إلَّا مبينَ السبب.
قوله: (لِأَنَّ أَسْبَابَ القَدْحِ كَمَا مَرَّ مُخْتَلِفَةٌ … ) إلى آخره؛ أي: فرُبَّمَا ظنَّ ما ليس بقادحٍ قادحًا، وقد وقع من جماعةٍ الطعنُ في جماعةٍ بسبب اختلافهم في العقائد، ولا يعتدُّ بذلك إلَّا بحقٍ، وكذا عابَ جماعةٌ من الورعين جماعةً دخلوا في أمر الدنيا فضعَّفوهم لذلك، ولا أثر له مع الصدق والضبط، وضعَّف بعضهم بعضًا تحاملًا، وغير ذلك مما لا عبرة به.
قوله: (وَيُرْسِلُ) الأَولى التعبيرُ بـ (أوْ).
قوله: (إِنْ كَانَ غَيْرَ دَاعِيَةٍ … ) إلى آخره، محلُّ هذا التفصيل في غير البِدعة المكفِّرة تكفيرًا متفقًا عليه، كما في غُلاة الروافض مِن دعوى بعضهم حلول الإلهية في عليٍّ أو غيره، أو الإيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة أو غير ذلك، وليس في الصحيح من حديث هؤلاء شيءٌ البتة، فموضوعُ ذلك التفصيل في البدعة المُفسِّقة كبدع الخوارج والروافض الذين لا يغلون ذلك الغلو، وفي غيرهم من الطوائف المخالفين لأصول السنة خلافًا ظاهرًا، لكنه مستندٌ إلى تأويل ظاهر شائع، وما ذكره الشارحُ من التَّفصيل هو المُعتمد الذي جرى عليه الأئمة، بل ادَّعى ابن حبان إجماعَ أهلِ النقل عليه، وقيل: يُقبل مطلقًا، وقيل: يُرَد مطلقًا، والقائلون بما ذكره الشارح من التفصيل اختلفوا، فبعضهم أطلق كما أطلق الشارح.
وبعضهم زاد تفصيلًا فقال: إن اشتملت رواية غيرِ الدَّاعية على ما يُشيد ببدعته ويُزينها ظاهرًا فلا يقبل وإلَّا قُبل، وطَرَدَ بعضهم هذا التفصيل بعينهِ في عكسهِ في حقِّ الداعية، فقال: إن اشتملتْ روايته على ما تردُّ به بدعته قُبِلَ وإلَّا فلا، ثمَّ هذا الخلاف والتفصيل محله إذا كان ذو البدعة المذكورة معروفًا بالتحرز من الكذب مشهورًا بالسلامة من خوارم المروءة، موصوفًا بالديانة والعبادة، وإلَّا فلا خلاف ولا تفصيلَ في ردِّهِ، ولكن لا من حيثية البدعة، بل من حيثية عدم العدالة.
قوله: (إِنْ وَافَقَ غَيْرُ الدَّاعِيَةِ … ) إلى آخره، صريحهُ أنَّ هذا التفصيلَ الذي ذكرَهُ ابن دقيق العيد خاصٌّ بغيرِ الدَّاعية من المُبتدعة، وعامٌّ في جميع رواياته ما لم يتعلقْ منها ببدعته أصلًا وما كان له بها تعلقٌ، وصريحُ كلامِ الحافظ ابن حجر في «مقدمته» أنَّه عام في الداعية وغيره، خاص بالأول فقط، وعبارته: إذا اشتملت رواية المبتدع سواءٌ كان داعيةً أو لم يكنْ على ما لا تَعَلُّقَ لهُ ببدعتهِ أصلًا هل يُقبل مطلقًا أو يُرَدُّ مُطلقًا؟ مال أبو الفتح القُشَيْرِي إلى تفصيلٍ آخر فيه فقال: إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو، إخمادًا لبدعته