أو حركاتها أو سكناتها؛ كحديث جابرٍ: «رُمِيَ أُبيٌّ يوم الأحزاب على أكحله». صحَّفه غُنْدَر، فقال: «أَبِي» بالإضافة، وإنَّما هو: أُبيُّ بن كعبٍ، وأبو جابرٍ استُشهِد قبل ذلك في أُحُد.
والنَّاسخ والمنسوخ: ويُعرَف النَّسخ بتنصيص الشَّارع عليه؛ كحديث بُرَيدة: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»، أو بجزم الصَّحابيِّ بالتَّأخُّر، كقول جابرٍ في «السُّنن» «كان آخِرَ الأمرين من النَّبيِّ ﷺ تَرْكُ الوضوء ممَّا مسَّت النَّار» أو بالتَّاريخ، فإن لم يُعرَف؛ فإن أمكن ترجيح أحدهما بوجهٍ
مَا حلقتُ رأسي قبل الصلاة منذ أربعين سنة، فَهِمَ منهُ تحليقَ الرأس، وإنَّما المراد تحليقُ الناسِ حِلقًا. انتهى. ملخصًا.
قوله: (أَوْ حَرَكَاتِهَا … ) إلى آخره، هذا ما يقتضيه إطلاقهم، فالمُصحَّف شامل لذلك كلِّهِ، وخصَّهُ شيخ الإسلام بما تغيرَ فيه النَّقْطُ فقط كشيئًا وستًا، وسمى ما تغير فيه الشكل مُحرفًا كَعَنَزَةَ محركًا وساكنًا.
قال ابن الصلاح: وكثيرٌ من التصحيف المنقولِ عن الأكابر الجلة لهم فيه أعذارٌ لم ينقلها ناقلوه.
فائدة: أورد الدَّارقطني في كتاب «التصحيف» كل تصحيفٍ وقع للعلماء حتى في القرآن، من ذلك ما رواه عثمان ابن أبي شيبة قرأ على أصحابه في التفسير: جعلَ السفينةَ في رحلِ أخيه، فقيل له: إنَّما هو ﴿جَعَلَ السِّقَايَةَ﴾ [يوسف: ٧٠] فقال: أنا وأخي وأبو بكر لا نقرأُ لعاصمٍ، قال: وقرأ عليهم في التفسير: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل: ١]، قالها: أ ل م؛ يعني: كأول البقرة.
قلت: لو سمعتُ ذلك من أمثال هذا لقلت لابن الصلاح يقول لهم: ﴿لا أجد ما أحملكم عليه﴾ [التوبة: ٩٢].
قوله: (وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوْخُ)؛ أي: ناسخُ الحديثِ ومنسوخُهُ، قال الإمام النووي: وكانَ للشافعي فيه يدٌ طُولى وسابقةٌ أُوْلَى، فقد نُقِلَ عن الإمام أحمد أنَّه قال لأحمد بن وارة، وقد قدم من مصر: كتبت كتب الشافعي؟ قال: لا، قال: فَرَّطتَ، ما علمنا المُجمل من المُفسر ولا ناسخَ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي. انتهى.
قوله: (ويُعْرَفُ … ) إلى آخره، ذكر ما يُعْرف به وترك ما يُعرَّف به، وهو: رفع الشارع حُكمًا منه متقدمًا بحكمٍ منه متأخر.
والمرادُ برفع الحُكم: قطعُ تعلُّقِهِ عن المُكلفين، واحترزَ به عن المُجمل، وبإضافته للشارع عن أخبار بعض من شاهد النَّسْخَ من الصحابة، فإنَّه لا يكون ناسخًا على ما ذهب إليه بعضهم وإن لم يحصل التكليف به لمن لم يبلغه قبل ذلك إلَّا بإخباره، وبالحكم عن رفع الإباحة الأصلية فإنَّه لا يسمى نسخًا، وبـ (المُتقدم) عن التخصيص المتصل بالتكليف كالاستثناء ونحوه.
وبقولنا: (بحكم منه متأخر) عن رفع الحكم بموت المُكلف، أو زوالِ تكليفه بجنون ونحوه، وعن انتهائه بانتهاء الوقت كقوله ﷺ: «إِنَّكُم مُلَاْقُوْا العَدُوِّ غَدًا، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوْا»، فالصومُ بعد ذلك اليومِ ليسَ نسخًا.
قوله: (كَحَدِيْثِ بُرَيْدَةَ)؛ أي: وكحديث: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عن لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ فَكُلُوا ما بَدَا لَكُمْ … » الحديث.
قوله: (فِيْ السُّنَنِ)؛ أي: سُنن أبي داود والنسائي.
وقوله: (كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ) بنصبِ (آخرَ) خبر كان مقدَّمًا و (تركُ) بالرفع اسمها مؤخر، ومُقتضى كلام الشارح أنَّ الصَّحابي إذا لم يُخبِر بالتَّأخر بل قال: هذا ناسخ لكذا لم يثبت به النسخ، وهو اصطلاح أهل الأصول لا أهل الحديث، قالوا: لجواز أن يقوله عن اجتهاد.
قال العراقي: وإطلاق أهل الحديث أوضحُ وأشهر؛ لأنَّ النَّسخ لا يصار إليه بالاجتهاد والرأي إنَّما يُصار إليه عند معرفة التاريخ، والصحابة أورعُ من أنْ يحكم أحد منهم على حكمٍ شرعيٍّ بنسخٍ من غيرِ أن يعرفَ تأخرَ الناسخِ عنه، وقد أطلق الشافعي ذلك أيضًا. انتهى.
قوله: (أَوْ بِالتَّارِيْخِ)؛ أي: كحديثِ شَدَّادِ بنُ أوس مرفوعًا: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» رواه أبو داود والنسائي، ذكر الشافعي: أنَّه منسوخٌ بحديث ابن عباس ﵁ «أنَّ النَّبيَّ ﷺ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ»، أخرجه مسلم، فإنَّ ابن عباس إنَّما صَحِبه مُحْرمًا في حجة الوداع سنة عشر، وفي بعض طرق حديث شدَّاد أنَّ ذلك كان زمن الفتح سنة ثمان، ومما يعرف به النسخ أيضًا دلالة الإجماع كحديث: قَتْلُ شارِبِ الْخَمْرِ فِيْ الرَّابِعَةِ، وهو ما رواه أبو داود والترمذي من حديث معاوية: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِيْ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ».
قال النووي في «شرح مسلم»: دلَّ الإجماع على نسخهِ وإن كان ابن حزم خالفَ في ذلك، فخلافُ الظاهرية لا يقدحُ في الإجماع، نعم ورد نَسخُه في السُّنَّةِ أيضًا كما روي عن جابر أن النَّبيَّ ﷺ قال: «إِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ شَرِبَ فِيْ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ»، قال: ثمَّ أُتِيَ النَّبيُّ ﷺ برجلٍ قد شربَ في الرابعة فضربهُ ولم يقتله، قال: فرُفع القتلُ وكانت رخصةً، ثمَّ الحديثُ لا يحكم عليه بالنسخ بالإجماع على تركِ العمل به إلَّا إذا عُرف صحته، وإلَّا فيحتمل أنَّه غلطٌ كما صرَّح به الصَّيْرفي، والإجماع لا يَنسخ ولا يُنسخ، ولكن يدلُّ على وجودِ ناسخٍ غيره. انتهى «شرح التقريب» مختصرًا.
قوله: (فإِنْ لَمْ يُعْرَفْ)؛ أي: التَّاريخ (فَإِنْ أَمْكَنَ … ) إلى آخره، إنَّما يُصَارُ إلى ذلك إذا لم يمكن الجمعُ بينهما بوجهٍ صحيحٍ، وإلَّا تعيَّنَ الجمعُ ولا يصار إلى النسخ، ويجب العمل بهما كحديث: «إَذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لم يَحْمِل الخَبَث (١)»، وحديث: «خَلَقَ اللهُ الْمَاءَ طَهُوْرًا لَا يُنَجِّسُهُ إلَّا ما غَيَّرَ لَوْنَهُ أو طَعْمَهُ أو رِيحَهُ»، فإن الأوَّلَ ظاهرهُ طهارةُ القُلتين تغيرَ أم لا، والثاني ظاهرهُ طهارة غيرِ المتغير سواءٌ كان قُلتين أم لا
(١) تعليق موسوعة البخاري: في المطبوع: الحدث.