بالحقِّ؛ احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، فمارسوا الدَّفاتر، وسامروا المحابر، وأجالوا في نظم قلائده أفكارَهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارَهم، واستغرقوا لتقييده ليلَهم ونهارَهم، فأبرزوا تصانيفَ كَثُرَت صنوفُها، ودوَّنوا دواوين ظهرت شفوفها، فاتَّخذها العالَمُون قدوةً، ونصبها العاملون قبلةً، فجزاهم الله ﷾ عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماءَ أمَّةٍ وأحبارَ ملَّةٍ.
وكان أوَّل من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة عمر بن عبد العزيز رحمة الله تعالى عليه خوفَ اندراسه، كما في «الموطَّأ» رواية محمَّد بن الحسن: أخبرنا يحيى بن سعيدٍ: أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمَّد بن عَمرو بن حزمٍ: أنِ انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ أو سننه فاكتبه؛ فإنِّي خِفتُ دُروسَ العلم وذهابَ العلماء، وأخرج أبو نُعيم في «تاريخ أصبهان» عن عمر بن عبد العزيز: أنَّه كتب إلى أهل الآفاق: انظروا إلى حديث رسول الله ﷺ فاجمعوه. وعلَّقه البخاريُّ في «صحيحه» [خ¦٣/ ٣٤ - ١٧٩]. فيُستفاد منه كما قال الحافظ ابن حجرٍ ابتداءَ تدوين الحديث النَّبويِّ. وقال الهرويُّ في «ذمِّ الكلام»: ولم تكن الصَّحابة ولا التَّابعون يكتبون الأحاديث، إنَّما كانوا يؤدُّونها حفظًا ويأخذونها لفظًا، إلَّا «كتاب الصَّدقات»، والشَّيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء، حتَّى إذا خِيف عليه الدُّروس، وأسرع في العلماء الموتُ؛ أَمَرَ عمرُ بنُ عبد العزيز أبا بكر بن محمَّدٍ فيما كتب إليه: أن انظر ما كان من سنَّةٍ أو حديثٍ فاكتبه. وقال في «مقدَّمة الفتح»: وأوَّل من جمع في ذلك الرَّبيع بن صَبيح وسعيد بن أبي عَروبة وغيرهما، وكانوا يصنِّفون كلَّ بابٍ على حِدَةٍ، إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطَّبقة الثَّالثة، وصنَّف الإمام مالك بن أنس «الموطَّأ» بالمدينة، وعبد الملك بن جريجٍ بمكَّة، وعبد الرَّحمن الأوزاعيُّ بالشَّام، وسفيان الثَّوريُّ بالكوفة، وحمَّاد بن سلمة بن دينارٍ
الأحاديث؛ بأنَّ الإذن لمن خافَ نسيانه، والنَّهي لِمَن أمن ووَثِقَ بحفظه، أو النَّهي خاصٌّ بوقت نزول القرآن؛ خشية التباسه، والإذن في غيره.
قوله: (فَمَارَسُوا الدَّفَاتِرَ) جمعُ دفتر -بفتح الدَّال وقد تُكسر، كما في «القاموس» - وهو جماعة الصُّحف المضمومة.
وفي «المصباح»: الدَّفتر: جريدة الحساب، وكَسْرُ الدَّال لغةٌ حكاها الفرَّاء وهو عربيٌّ، قال ابن دُريد: ولا يُعرف له اشتقاق، وبعض العرب يقول تفتر. انتهى.
وفي «شفاء الغليل»: الدَّفتر: عربيٌّ صحيح وإن لم يُعْرف اشتقاقه، وجعله الجوهريُّ واحد الدَّفاتر، وهي الكراريس. انتهى.
قوله: (وسَامَرُوا المَحَابِرَ) من المُسَامرة، وهي الحديث ليلًا، كُنِّيَ به عن الملازمة، والمحابر: بالمهملة -جمع محبَرة بفتح الباء- موضع الحبر، قال في «القاموس»: وحُكي فيها مَحْبَرَة كمقبرة، وتُشدَّد الراء.
وفي نسخةٍ: (وسابر) بالموحدة بدل الميم من المسابرة؛ وهي اختبار الشَّيء، كُنِّي به عن الملازمة والمصاحبة.
قوله: (ظَهَرَت شُفُوفُهَا) الشُّفُوف بضمِّ الشِّين المعجمة والفاء جمع شفّ بالفتح وبكسر؛ الثَّوب الرَّقيق، فَتَجَوَّزَ بِهِ عن الثَّوب الَّذي يُتزيَّن به، فيكون المعنى ظهرت زينتها وبهجتها، أو عن الأوراق أو الجلود ثمَّ تجوَّز بها عمَّا تضمَّنته من الأحاديث والأحكام، فيكون المعنى: ظهر وانتشر في الأقطار ما فيها.
قوله: (العَالَمُونَ) بفتح اللَّام جمع عَالَم بالفتح أيضًا، وما بعده بالكسر جمع عالم ولا مانع من العكس، و (القُدْوَةُ) بضمِّ القاف: الاقتداء.
قوله: (قِبْلَة)؛ أي: كالقِبلة يتوجَّهون إليها ويفزعون لها في أحوالهم وأحكامهم كما يتوجَّه المصلُّون إلى قبلتهم.
قوله: (وأَحْبَار مِلَّةٍ) جمع حبر -بفتح الحاء وكسرها- العالم.
قوله: (عُمَر بن عبد العزيز) على رأس المئة الأولى، كما في «شرح التَّقريب» ولولاه لضاع الحديث، ولذا دخل فيه الضَّعيف والشَّاذُّ ونحوهما ولو كتب في حياته ﷺ لكان مضبوطًا كالقرآن.
قوله: (إِلَى أَبِي بَكْرٍ)؛ أي: الأنصاريِّ المدنيِّ المتوفَّى سنة اثنتين ومئة في خلافة هشام بن عبد الملك، وكان أبو بكر نائب عمر بن عبد العزيز في الإمارة والقضاء على المدينة الشَّريفة.
قوله: (انْظُرْ مَا كَانَ) زاد الكُشميهَني: «عندك»؛ أي: في بلدك، فـ «كان» على الرِّواية الأولى تامَّة وعلى الثَّانية ناقصة و «عندَك» الخبر.
قوله: (دُرُوْس) بضمِّ الدَّال مصدر دَرَسَ، كفَتَرَ؛ أي: ذَهَبَ.
وقوله: (وَذَهَابَ العُلَمَاءِ)؛ أي: موتهم، وقد كان الاعتماد إنَّما هو على الحفظ فخاف أن يموت العلماء الحافظون له فيذهب ويفنى فأَمر بكتابته.
قوله: (وَعَلَّقَهُ البُخَارِيُّ)؛ أي: أتى به محذوف السَّند، وسيأتي تعريف المعلَّق وذلك أنَّه قال: باب كيف يقبض العلم، وكتب عمر بن عبد العزيز … إلى آخره، ما هنا بلفظه.
قوله: (ابْتِدَاءُ تَدْوِيْنِ الحَدِيْثِ النَّبَوِي) قال ابن حجر أيضًا: وأوَّلُ مَن دوَّنه بأمر عمر بن عبد العزيز ابنُ شهاب الزهري. انتهى.
قوله: (إِلَّا كِتَابَ الصَّدَقَاتِ) هو ما كتبه النَّبيُّ ﷺ لمعاذ بن جبل لمَّا وجَّهه إلى اليمن؛ لجلب صدقاته، وبيَّن له فيه ما يأخذه من أنواع النَّعم، وهو مبسوط في كتبنا الفقهيَّة، وسيأتي للمصنِّف تخريجه.
قوله: (وَأَوَّلُ مَنْ جَمَعَ فِي ذلك الرَّبيع … ) إلى آخره، قال في «شرح التَّقريب»: فأَوَّلُ مَن جمعَ ذلك ابن جُريج بمكة، وابن إسحاق أو مالك بالمدينة، والرَّبيع بن صَبيح أو سعيد بن أبي عَروبة أو حمَّاد بن سلمة بالبصرة، وسفيان الثَّوريُّ بالكوفة، والأوزاعيُّ بالشَّام، وهُشيم بواسط، ومَعْمَر باليمن، وجرير بن عبد الحميد بالرّيِّ، وابن المبارك بخراسان. قال العراقيُّ وابن حجر: وكان هؤلاء في عصر واحد فلا يُدرى أيُّهُم سبق. ثمَّ تلا المذكورين كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعض الأئمَّة أن تُفرد أحاديث النَّبيِّ ﷺ خاصَّة وذلك على رأس المئتين؛ فصنَّف عُبيد الله بن موسى الكوفيُّ مسندًا، وصنَّف مُسَدَّد البصريُّ مسندًا، وأسد بن موسى مسندًا، ونُعيم بن حمَّاد الخزاعيُّ المصريُّ مسندًا، ثمَّ اقتفى الأئمَّة آثارهم، فقلَّ إمام إلَّا وصنَّف حديثه على المسانيد كأحمد ابن حنبل وإسحاق بن رَاهُوْيَه وابن أبي شيبة وغيرهم.
قال: قلت: وهؤلاء المذكورون في أوَّل مَن جَمَعَ كُلُّهُم في أثناء المئة الثَّانية، وأما ابتداء تدوين الحديث فإنَّه وقعَ على رأس المئة في خلافة عُمر بأمره. انتهى ملخصًا.