للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عند الشَّافعيِّ والجمهور، واحتجَّ به أبو حنيفة ومالكٌ وأحمد في المشهور عنه، فإن اعتُضِدَ بمجيئه من وجهٍ آخر مسندًا، أو مرسلًا أخذ مُرسِله العلم عن غير رجال المُرسَل الأوَّل؛ احتُجَّ به، ومن ثمَّ احتجَّ الشَّافعيُّ بمراسيل سعيد بن المسيَّب؛ لأنَّها وُجدت مسانيدَ من وجوهٍ أُخر.

قال النَّوويُّ: إنَّما اختلف أصحابنا المتقدِّمون في معنى قول الشَّافعيِّ: إرسال سعيد بن المسيَّب عندنا حسنٌ على قولين؛ أحدهما: أنها حجَّةٌ عنده، بخلاف غيرها من المراسيل؛ لأنَّها وُجِدت مُسنَدةً، ثانيهما: أنَّها ليست بحجَّةٍ عنده بل كغيرها، وإنَّما رَجَّحَ الشَّافعيُّ بمُرسَله، والتَّرجيح بالمُرسَل جائزٌ.

قال الخطيب: والصَّواب الثَّاني، وأمَّا الأوَّل فليس بشيءٍ؛ لأنَّ في مراسيل سعيدٍ ما لم يوجد بحالٍ

أو مصرِّحًا بالسماع، قال: وهو حسن متجه، وكلام مَن أطلق قبوله محمول على هذا التفصيل.

قوله: (عِنْدَ الشَّافِعِيِّ)؛ أي: وأحمد ومالك في أحد قوليهما.

وقوله: (وَالجُمْهُوْر)؛ أي: جمهور المحدثين وكذا عند كثير من الفقهاء والأصوليين، وذلك للجهلِ بحال الساقطِ فيحتمل أن يكون غير صحابي؛ لأن أكثر رواية التابعين بعضهم عن بعض، وحينئذ احتمل أن يكون ضعيفًا، ولو اتفق أن الذي أرسله كان لا يروي إلَّا عن ثقة فإنَّ التوثيق في المُبْهَمِ غيرُ كافٍ، وإذا كان المجهول المُسمى غير مقبولٍ فالمجهول عينًا وحالًا أولى، قال السيوطي: ولهذا لم يُصَوَّبْ قولُ من قال: المرسل ما سقط منه الصحابي؛ إذ لو عُرِفَ أنَّ الساقطَ صحابيٌّ لم يُرَدَّ؛ لأنَّهم كلهم عدول. انتهى.

وحينئذ فقول متن البيقوني:

ومرسلٌ منهُ الصحابيُّ سقطَ … ... … ...

ليسَ على ما ينبغي، وعبارة شارحنا خالية عن ذلك إذ لم يتعرض فيها للساقط.

قوله: (فِيْ المَشْهُوْرِ عَنْهُ)؛ أي: عن أحمد، وقد علمت أنَّ له قولًا آخر بعدم الاحتجاج به كالشافعي، وكذا الإمام مالك، فلو قال الشارح في المشهور عنهما لكان أحسن.

قال البقاعي: واحتجاج مالك وغيره بالمرسل مقيَّدٌ بأن يكون التابعي لا يروي إلَّا عن الثقات فقط، فإن كان ممَّن لا يحترز ويرسل عن غير الثقات فلا خلاف في رَدِّهِ. انتهى.

وهو منقول عن ابن عبد البر.

وقال غيره: محل قبوله عند الحنفية إذا كان مرسِلُه من أهل القرون الثلاثة الفاضلة؛ لحديث: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ»، ورُدَّ بأنَّ الحديث محمول على الغالب، وإلَّا فقدْ وُجِدَ في القرنين من هو متصفٌ بالصفات المذمومة.

قوله: (مُسْنَدًا) صوَّر الرازي وغيره من أهل الأصول المسنَد العاضد بأن لا يكون مُنْتَهِضَ الإسناد ليكون الاحتجاج بالمجموع، وإلَّا فالاحتجاج حينئذ بالمسنَد فقط ولا حاجة للمرسَل.

قوله: (العِلمَ)؛ أي: هذا الحديث أو ما أُخذ منه.

وقوله: (عَنْ غَيْر رِجَالِ المُرْسَلِ الأَوَّلِ)؛ أي: كما ذكره الشافعي قال: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيَّب: «أنَّ رسول الله نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ».

فهذا مثال المرسل، ومثال المُعضِّد له ما رواه البيهقي من حديث الحسن، عن سَمُرَة بن جُنْدُب، عن النَّبيِّ : «أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَنْ يُبَاعَ حَيٌّ بِمَيِّتٍ».

فاختلفوا في سماع الحسن من سَمُرَة، فمنهم مَن أثبته وحينئذ فيكون مثالًا لما له شاهدٌ مسند، ومنهم من لم يُثبته وحينئذ فيكون مثالًا للمرسل الآخر الذي أخذ مُرْسِلُهُ العلمَ عن غير رجال المرسِل الأوَّل.

قوله: (احْتُجَّ بِهِ)؛ أي: عند أولئك الذين منعوا الاحتجاج به؛ أي: أَنَّهم لم يمنعوا الاحتجاج به مطلقًا، بل ما لم يعتضد بما ذكر، فإن تعضَّد احتجَّ به عندهم، وتبين بذلك صحة المرسل، وأنَّهما؛ أي: المرسل وما عضده صحيحان لو عارضهما صحيح من طريق واحدة رجحناهما عليه إذا تعذر الجمع بينهما، وبهذا مع ما قبله يندفعُ ما يُقال: إذا اعتضد المرسل بمسند فالعمدة على المسند في الحجة ولا حاجة للمرسل. وحاصلُ الجواب: أنَّ ذلك المسند إما أن لا يكون بمفرده حجة بأن كان لا ينتهض إسناده فيكون الاحتجاج حينئذ بالمجموع إذ المُسند وحده حينئذ غير صالحٍ للاحتجاج، وإما أن يكون حجةً بانفراده فيكون دليلًا برأسه، والمُرسل حينئذ يعتضد به فيصير دليلًا آخر فيرجح بهما عند معارضة حديث صحيح واحد.

قوله: (لأَنَّهَا وُجِدَتْ مَسَانِيْدَ)؛ أي: ولجمعها بقية الشروط المُعتبرة عنده، وهي كما قاله النووي كون المرسِل من كبار التابعين، وكونه إذا سَمَّى مَن أرسل عنه سمَّى ثقةً، وإذا شاركه الحفاظ المأمونون لم يخالفوه، وأن يوافق قول صحابي، أو يفتي أكثر العلماء بمقتضاه، أو يكون منتشرًا عند الكافة، أو يوافقه فعل أهل العصر، فما اشتهر عن الشافعي أنَّه لا يحتج بالمرسل إلَّا مراسيل سعيد بن المسيب هو على إطلاقه غلطٌ، بل يحتج بالمرسل بالشروط المذكورة مطلقًا، ولا يحتج بمرسل سعيد إلَّا بها.

قوله: (بَلْ هِيَ كَغَيْرِهَا)؛ أي: في عدمِ الاحتجاج بها إن خَلَت من تلك الشروط لما سَلَفَ من أنَّها ضعيفةٌ؛ للجهل بحال المحذوف، وغايته أنَّه إذا تعارض حديثان موصولان ووجد لأحدهما من مراسيل سعيد موافق رجحه به، فيكون مرسل سعيد كغيره في أنَّه لا يحتجُّ به، وإنَّما يرجح به مقدمًا له عن غيره، قال البيهقي: وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنَّه أصح التابعين إرسالًا فيما زعم الحفاظ. انتهى.

أي: ولما سلف من استجماعه لتلك الشروط.

قوله: (مَا لَمْ يُوْجَدْ بِحَالٍ) أصلُ عبارة الخطيب: لأنَّ في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندًا بحالٍ من وجهٍ يصح، وبذلك علَّل البيهقي أيضًا، قال النووي: فهذان الإمامان؛ -أي: الخطيب والبيهقي- حافظان فقيهان

<<  <   >  >>