وقوله: «رُبَّ» وُضِعَت للتَّقليل، فاستُعيرَت في الحديث للتَّكثير، وقوله: «إلى من هو أفقه منه» صفةٌ لمدخول «رُبَّ» استُغنِي بها عن جوابها، أي: رُبَّ حامل فقهٍ أدَّاه إلى مَنْ هو أفقه منه لا يفقه ما يفقهه المحمول إليه، وعن ابن عبَّاس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «اللهمَّ ارحم خلفائي»، قلنا: يا رسول الله، ومَنْ خلفاؤك؟ قال: «الذين يروون أحاديثي ويعلِّمونها النَّاس»، رواه الطَّبرانيُّ في «الأوسط»، ولا ريبَ أنَّ أداء السُّنن إلى المسلمين نصيحةً لهم مِن وظائف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فمَنْ قام بذلك كان خليفةً لمن يبلِّغ عنه، وكما لا يليق بالأنبياء ﵈ أن يهملوا أعاديهم ولا ينصحوهم، كذلك لا يحسن بطالب الحديث وناقل السُّنن أن يمنحها صديقه ويمنعها عدوَّه، فعلى العالم بالسُّنَّة أن يجعل أكبرَ همِّه نشرَ الحديث، فقد أمر النَّبيُّ ﷺ بالتَّبليغ عنه، حيث قال: «بلِّغوا عنِّي ولو آيةً» الحديثَ، رواه البخاريُّ ﵀، قال المُظْهِريُّ: أي: بلِّغوا عنِّي أحاديثي ولو كانت قليلةً. قال البيضاويُّ ﵀: قال: «ولو آيةً» ولم يقل: ولو حديثًا؛ لأنَّ الأمر بتبليغِ الحديثِ يُفهَم منه بطريق الأولويَّة، فإنَّ الآياتِ مع انتشارها وكثرةِ حَمَلَتِها، تكفَّل الله تعالى بحفظها وصونها عن الضَّياع والتَّحريف. انتهىَ.
وقال إمام الأئمَّة مالكٌ رحمه الله تعالى: بلغني أنَّ العلماء يُسأَلون يوم القيامة عن تبليغهم العلم كما يُسألُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال سفيان الثَّوريُّ: لا أعلم عملًا أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله تعالى، إنَّ النَّاس يحتاجون إليه حتَّى في طعامهم وشرابهم، فهو أفضل من التَّطوُّع بالصَّلاة والصِّيام؛ لأنَّه فرض كفايةٍ، وفي حديث أسامة بن زيدٍ ﵁ عن النَّبيِّ ﷺ أنَّه قال: «يَحملُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدُولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» وهذا الحديث رواه من الصَّحابة عليٌّ وابن عمر وابن عمرٍو وابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ وجابر بن سَمُرة ومعاذٌ وأبو أُمامة وأبو هريرة ﵃، وأورده ابن عديٍّ من طرقٍ كثيرةٍ كلُّها ضعيفةٌ، كما صرَّح به الدَّارقطنيُّ وأبو نُعيمٍ وابن عبد البرِّ، لكن يمكن أن يتقوَّى بتعدُّد طرقه، ويكون حسنًا كما جزم به ابن كيكلدي العلائيُّ، وفيه تخصيص حملة السُّنَّة بهذه المَنْقَبَة العليَّة، وتعظيمٌ لهذه الأمَّة المحمَّديَّة، وبيانٌ لجلالة قدر المحدِّثين، وعلوِّ مرتبتهم في العالَمين؛ لأنَّهم يحمون مشارع الشَّريعة ومتون الرِّوايات من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين؛ بنقل النُّصوص المُحكَمة لردِّ المتشابه إليها.
وقال النَّوويُّ في أوَّل «تهذيبه»: هذا إخبارٌ منه ﷺ بصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأنَّ الله تعالى يوفِّق له في كلِّ عصرٍ خَلَفًا من العُدُول يحملونه، وينفون عنه التَّحريف فلا يضيع، وهذا تصريحٌ بعدالة حامليه في كلِّ عصرٍ. وهكذا وقع ولله الحمد، وهو من أعلام النُّبوَّة، ولا يضرُّ كون بعض الفسَّاق يعرف شيئًا من علم الحديث؛ فإنَّ الحديث إنَّما هو إخبارٌ بأنَّ العدول يحملونه، لا أنَّ غيرهم لا يعرف شيئًا منه. انتهىَ.
التَّجانس دون ذاك.
هذا وذهب بعض اللُّغويين إلى أنَّ الفقه أَنْزَلُ من العلم كما نقله ابن الطَّيِّب في حواشي القاموس، وعليه فيظهر أنَّ وجه إيثاره على العلم حينئذٍ الإيذان بطلب نشر مُطلَق العلم النَّافع لا بقيد كونه على وجه مخصوص، فليُتأمَّل.
قوله: (وُضِعَت لِلتَّقْلِيلِ) هو أحد قولين، والمشهور أنَّها للتَّكثير، وقال الشَّارح نفسه في «كتاب العلم» ما نَصُّهُ: ورُبَّ حرفُ جرٍ يُفيد التَّقليل لكنَّه كَثُرَ في الاستعمال للتكثير بحيث غلب حتَّى صار كأنَّه حقيقة فيه. انتهى.
ولذا قيل:
خَلِيْلِي لِلْتَّكْثِيْرِ رُبَّ كَثِيْرَةٌ … وَجَاءَتْ لَتَقْلِيْلٍ وَلَكِنَّهُ يَقِلْ
وكذا ذكر الأشمونيُّ إذ قال: هي للتَّكثير كثيرًا وللتَّقليل قليلًا، فالأوَّل كقوله ﷺ: «يا رُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنْيَا عَارِيَةٌ في الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ أي: لأنَّ الحديث مسوق للتَّخويف، والتَّقليل لا يُناسبه، والثَّاني كقوله:
أَلَا رُبَّ مَوْلُوْدٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ … ... … ... …
وعلى هذا لا استعارة في الحديث، وقيل: موضوعةٌ لهما سواء، وقيل: للتَّقليل مجازًا والتَّكثير حقيقة، وقيل: للتَّكثير في موضع المباهاة والتَّقليل فيما عداه، وقال في «القاموس»: لم تُوضع لتقليلٍ ولا لتكثيرٍ بل يُستفادان من سياق الكلام. انتهى.
قوله: (عَنْ جَوَابِهَا) المرادُ به: خبر المبتدأ الَّذي دخلت عليه رُبَّ، وكأنَّه سمَّاه جوابًا؛ تشبيهًا لرُبَّ وخبر مدخولها بالشَّرط وجوابه لتوقف معناها عليه تَوَقُّفَ المبتدأ على الخبر، وتقدير الشَّارح المحذوف (أدَّاه) لا يضره كونه خاصًّا والعامل الخاصُّ لا يُحذف؛ إذ محله ما لم تدلَّ عليه قرينةٌ، إلَّا أنَّ كون ذلك صفة مستغنى بها عن الجواب الظَّاهر أنَّه غير متعيَّن بل يصحُّ أن يكون هو الجواب.
قوله: (خُلَفَائِي)؛ أي: الَّذين يخلفوني في الدِّين: جمع خليفة.
قوله: (الَّذِيْنَ يَرْوونَ أَحَادِيْثِي)؛ أي: فَهُم الخلفاء حقيقةً، ولذا كان المحدِّث في العصر الأولي يُلقَّب بأمير المؤمنين؛ أخذًا من هذا الحديث، وممَّن لُقِّبَ بذلك سفيان وابن رَاهُوْيَه والبخاريُّ وغيرهم.
قوله: (فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّطَوعِ بِالصَّلاةِ) بل قال أبو سعيد الخُدريُّ: مذاكرةُ الحديث أفضل من قراءة القرآن. ورُوي عن ابن عباس ﵄ قال: مذاكرةُ الحديث ساعةٌ خيرٌ من إحياءِ ليلةٍ.
قوله: (مِنْ كُلِّ خَلَفٍ) بفتح اللَّام فيما يُخلَف في الخير، وسكونها فيما يخلف في الشَّرِّ، قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾ الآية [مريم: ٥٩].
وقوله: (عُدُوْلُهُ) بالرَّفع فاعل يحمل.
قوله: (الغَالِيْنَ) بالغين المعجمة؛ أي: الَّذين يغلون في الدِّين؛ أي: يتجاوزون الحدَّ.
قوله: (وانْتِحَالَ … ) إلى آخره، بالحاء المهملة، يُقَالُ: انْتَحَلَ الشَّيء وتَنَحَّلَهُ ادَّعاهُ لنفسه وهو لغيره؛ وأُريدَ به هنا الدَّعوى الكاذبة، والانتحال والتَّأويل والغلوُّ ترجعُ كلُّها لمعنى واحد، وهو تغيير لفظ الحديث أو معناه؛ لغرض من الأغراض الفاسدة.
قوله: (وَيَكُوْنُ حَسَنًا)؛ أي: ولذا استدلَّ به ابن عبد البرِّ، ووافقه ابن الموَّاق من المتأخِّرين على أنَّ حامل كل علمٍ معروفُ العناية به فهو عدلٌ محمول في أمره أبدًا على العدالة حتَّى يتبيَّن جرحه.
قوله: (إِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ) رَدَّهُ العراقيُّ فقال: لا يصحُّ حمله على الخبر؛ لوجود من يحمل