من وجهٍ يصحُّ، وأمَّا مُرسَل الصَّحابيِّ كابن عبَّاسٍ وغيره من صغار الصَّحابة عنه ﷺ ممَّا لم يسمعوه منه فهو حُجَّةٌ، وإذا تعارض الوصل والإرسال بأن تختلف الثِّقات في حديثٍ، فيرويه بعضهم متَّصلًا وآخر مرسلًا؛ كحديث: «لا نكاحَ إلَّا بوليٍّ» رواه إسرائيلُ وجماعةٌ عن أبي إسحاق السَّبيعيِّ عن أبي بُردةَ عن أبي موسى عن النَّبيِّ ﷺ، ورواه الثَّوريُّ وشعبةُ عن أبي إسحاق عن أبي بردةَ عن النَّبيِّ ﷺ؛ فقيل: الحكم للمُسنِد إذا كان عدلًا ضابطًا، قال الخطيب: وهو الصَّحيح، وسُئِلَ عنه البخاريُّ فحَكَمَ لمن وصل، وقال: الزِّيادة من الثِّقة مقبولةٌ، هذا مع أنَّ المرسِل شعبة وسفيان، ودرجتهما في الحفظ والإتقان معلومةٌ، وقِيلَ: الحكم للأكثر، وقِيلَ: للأحفظ، وإذا قلنا به وكان المرسِلُ الأحفظَ فلا يُقدَح في عدالة الواصل وأهليَّته على الصَّحيح، وإذا تعارض الرَّفع والوقف بأن يرفع ثقةٌ حديثًا وقَفَهُ ثقةٌ غيرُه فالحكمُ للرَّافع؛ لأنَّه مُثبِتٌ وغيرُه ساكتٌ، ولو كان نافيًا فالمثبِت مقدَّمٌ، وتُقبَل زيادة الثِّقات مطلقًا على الصَّحيح، سواءً كانت من شخصٍ واحدٍ، بأن رواه مرَّةً ناقصًا، ومرَّةً أخرى وفيه تلك الزِّيادة، أو كانت الزيادة مِن غير مَن رواه ناقصًا، وقِيلَ: بل مردودةٌ مطلقًا، وقِيلَ: مردودةٌ منه، مقبولةٌ من غيره. وقال الأصوليُّون: إن اتَّحد المجلس ولم يحتمل غفلته عن تلك الزِّيادة غالبًا رُدَّتْ، وإن احتمل قُبِلت عند الجمهور، وإن جُهِلَ تعدُّدُ المجلس
شافعيان من أرباب الخبرة التامة بنصوص الشافعي ومعاني كلامه. انتهى.
أي: فلا عبرة بقول غيرهما: إنَّ معنى كلام الشافعي في قوله: وإرسال ابن المسيب عندنا حسن، أنَّه حجة عنده، بل معناه أنَّه يُقدَّم الترجيح به، قال النووي أيضًا: ولا يصحُّ تعلق مَن قال إنَّه حجة بقوله: إرساله حسن؛ لأنَّ الشافعي لم يعتمد عليه وحده، بل لِمَا انضم إليه من قول أبي بكر ومَنْ حَضَره من الصحابة وقول أئمة التابعين. انتهى.
أي: في قضية منع بيع اللحم بالحيوان التي ساقها مرسلة لسعيد، وذكر بعدها أنَّ أبا بكر منع ذلك ووافقه من الصحابة والتابعين جمعٌ، فلو سلَّمنا أنَّه احتج به فيما ذكر فإنَّه ليس به وحده بل به وبغيره، فالاحتجاج بالمجموع لا به وحده.
قوله: (مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ) هو من تمامِ كلام الخطيب كما علمت، وقد عرفت أنَّ أصل عبارته: لأنَّ في مراسيل سعيد ما لم يوجد مُسندًا بحالٍ من وجه يصحُّ. والمعنى في مراسيل سعيد ما لم يصح إسناده في وجهٍ من الوجوه، أي: طريق من الطرق.
واعترض بأنَّه لا يُشترط في المسند الذي يُرجَّح به المرسل أن يكون صحيحًا، وبعد ذلك فالتعليل في ذاته غير مُسَلَّم، لما ذكره في «شرح التقريب» مما نصه: تأمل الأئمة المتقدمون مراسيل سعيد فوجدوها بأسانيد صحيحة، وقال الماوردي في «الحاوي»: كان الشافعي يحتجُّ في القديم بمراسيل سعيد بانفرادها؛ لأنَّه لا يرسلُ حديثًا إلَّا يوجد مسندًا؛ ولأنَّه لا يروي إلَّا ما سمع من جماعة أو من أكابر الصحابة أو عضده قولهم أو رآه منتشرًا عند الكافة أو وافقه فعل أهل العصر، ثم قال: ومذهبه في الجديد أنَّه كغيره. انتهى.
[فائدتان]
الأولى: في الاحتجاج بالمراسيل أقوال أُخَرُ غير ما تقدم، حاصلها أنَّه حجةٌ مُطلقًا، غير حُجَّةٍ مطلقًا، حُجَّةٌ إن أرسله سعيد فقط مطلقًا، حُجَّةٌ إن لم يكن في الباب سواه، هو أقوى من المسند، حُجَّةٌ إن أرسله صحابي، وقيل: يُحتج به ندبًا، فالجملة ثمانية أقوال.
الثانية: قال الحاكم في «علوم الحديث»: أكثر ما تُروى المراسيل من أهل المدينة عن ابن المسيَّب، ومن أهل مكة عن عطاء بن رباح، ومن أهل البصرة عن الحسن البصري، ومن أهل الكوفة عن إبراهيم النَّخعي، ومن أهل مصر عن سعيد بن أبي هلال، ومن أهل الشام عن مَكْحُول.
قال: وأصحُّها مراسيل ابن المسيب؛ لأنَّه من أولاد الصحابة، وأدرك العَشرة، وفقيه أهل الحجاز ومفتيهم، وأول الفقهاء السبعة الذين يحتج مالك بإجماعهم، كإجماع كافة الناس، وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره. انتهى.
ومنه يُعلم وجه ترجيح الشافعي لمراسيله دون غيره أيضًا زيادة عما سبق.
قوله: (وأَمَّا مُرسَلُ الصَّحَابِي … ) إلى آخره، ظاهره أنَّ المعنى أنَّ هذا الخلاف إنَّما هو في مرسل التابعي، أما مرسل الصحابي … إلى آخره، فلا خلاف في الاحتجاج به مطلقًا، وليس كذلك، بل الاحتجاج به أرجح القولين، إذ قيل: إنَّه كغيره لا يحتجُّ به إلَّا إذا تبين أنَّه عن صحابي، ثمَّ المراد الصحابي حقيقة وحكمًا لا من في حكم التابعين السابق؛ فإنَّ مرسله كمراسيلهم.
قوله: (مَا لَمْ يَسْمَعُوْهُ مِنْهُ)؛ أي: كإخبارهم عن شيءٍ فَعَلَهُ النَّبيُّ ﷺ أو نحوه ممَّا عُلِمَ أنهم لم يحضروه؛ لصِغَرِ سِنِّهم وقته، أو تَأَخُّرِ إسلامهم عنه.
وقوله: (فَهُوَ حُجَّةٌ)؛ أي: لصحته عند الجمهور، وفي «البخاري»: منه كثيرٌ؛ وذلك؛ لأنَّ أكثر رواية مثل هذا عن الصحابة، وكلهم عدولٌ، وروايتهم عن غيرهم نادرة، وإذا رووها بيَّنوها، بل قيل: أكثر ما رواه الصحابة عن التابعين ليس من الأحاديث المرفوعة، بل إما إسرائيليات، أو حكايات، أو موقوفات.
قوله: (السَّبِيْعِي) بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وبعد التحتية عين مهملة، وسيأتي له ذكرٌ.
قوله: (مُثْبِتٌ)؛ أي: للرفع.
وقوله: (وَلَوْ كَانَ نَافِيًا فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ)؛ أي: عليه؛ أي: فالساكت أولى.
قوله: (الثِّقَات) الجمع ليس مرادًا، والمراد بزيادة الثقة أن يزيد في روايته عمَّا رواه الجماعة في الحديث كرواية الستة «وِكَاءُ الْعَيْنِ» زاد فيه إبراهيم بن موسى: «فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأ».
قوله: (سَوَاء كَانَتْ … ) إلى آخره؛ أي: وسواء تعلَّق بها حكم شرعي أم لا، وسواء غيرت الحكم الثابت أم لا، وكذا الإعراب، كأنْ يروى: «فِيْ أَرْبَعِيْنَ شَاةٌ» ثم يروى «فِي أَرْبَعِيْنَ نِصْفُ شَاةٍ».
قوله: (وَقِيْلَ مَرْدُوْدَةٌ مِنْهُ)؛ أي: ممَّن روى بدونها ثم روى بها.
قوله: (إِن اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ … ) إلى آخره، فإن اختلف فقال ابن الصباغ: إذا ذكر أنَّه سمع كل واحد من الخبر في مجلسٍ قُبلت وكانا خبرين يُعمل بهما.
قوله: (وَلَمْ يُحْتَمَلْ غَفْلَتُهُ … ) إلى آخره؛ أي: بل عُلِمَ أنَّه متذكرٌ لها غير ذاهلٍ عنها.
وقوله: (رُدَّت) عِبَارَةُ غَيْرِهِ وَجَبَ التَّوَقُّفُ فِيْهَا، ولعله للتعارض بين الزيادة والنقص.
وقوله: (وَإِنْ احْتُمِلَ)؛ أي: غفلته عنها، وبالأولى ما لو صرَّح بأنَّه نسيها، وترك الشارح