للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وليُصلِح النِّيَّة في التَّحديث؛ بحيث يكون مخلصًا

الكتابةِ الخليةِ عن القصد، فليس فيها إشعارٌ بذلك الغرضِ أنَّه علم عدم نية المجيز بإخباره مثلًا، وإنَّما الأعمال بالنيات فكانت الكتابة بدون قصد الإجازة كلا كتابة، ثم الظاهر أنَّه إذا لم يُعلم عدم القصد صحت الإجازة والرواية بها عملًا بالظاهر، ولا يشترط القبول في الإجازة كما صرَّح به البُلقيني فلو رُدَّ، فقال الجلال السيوطي: الذي ينقدحُ في النفس الصحةُ، كما لو رجع الشيخ عن الإجازة.

قوله: (وَلْيُصْلِحِ النِّيَّةَ … ) إلى آخره، شُرُوْعٌ في آدابِ الحديثِ:

واختلف في السِّن الذي يحسن أن يتصدى فيه له: فقال ابن خلَّاد: إذا بلغَ الخمسينَ ولا يُنكر عند الأربعين؛ لأنَّها حدُّ الاستواء ومنتهى الكمال وعندها ينتهي عزم الإنسان وقوته ويتوفر عقله ورأيه. انتهى.

وَرُدَّ ذلكَ بأنَّ كثيرًا من السلف والخلف حدَّثوا وهم دون ذلك؛ فقد حدَّثَ مالك وهو ابن سبع عشرة سنة، وكذا الشافعي والبخاري وغيرهم، وقال ابن الصلاح: ما قاله ابن خلَّاد محله فيمن يؤخذ عنه الحديث لمجرد الإسناد من غير براعة في العلم؛ فإنَّه لا يُحتاجُ إليه لعلو الإسناد إلَّا عند السنِّ المذكور أما مَن عنده براعة فيجلس له في أي سن كان، ومقتضاه أنَّه يصح روايته والأخذ عنه حينئذ ولو قبل البلوغ وهو أحد وجهين، والأصح المنع كما ذكره السيوطي في أشباهه، وأما المجنون والكافر فلا كما يُعلم ممَّا سبق.

وأمَّا سنُّ السماعِ فقال جماعةٌ: بعد ثلاثين، وآخرون: بعد عشرين.

قال أبو عبد الله الزبيري: يُستحب كَتْب الحديث في العشرين؛ لأنَّها مجتمع العقل.

قال: وأُحبُّ أن يشتغل قبلها بحفظ القرآن والفرائض؛ -أي: الفقه-.

ونقل عياض أنَّ أهل الصنعة حددوا أوَّلَ زمن يصح فيه السماع بخمس سنين، ونسبه غيره للجمهور.

حجتهم ما رواه البخاري وغيره من حديث محمود بن الربيع قال: «عَقَلْتُ عن النَّبيِّ مَجَّةً مَجَّهَا فِيْ وَجْهِي مِنْ دَلْوٍ وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ» بَوَّبَ عليه البخاري: متى يصحُ سماعُ الصَّغِيْرِ؟.

قال ابن الصلاح: والصوابُ اعتبارُ التمييزِ؛ فإنْ فَهِم الخطاب وردَّ الجواب كان مُميزًا صحيح السماع وإن لم يبلغ خمسًا، وإلَّا فلا وإن كان ابن خمس فأكثر، ولا يلزم مِن عَقْلِ مَحْمُوْدٍ المَجَّةَ في هذا السنِّ أنَّ تمييزَ غيره مثل تمييزه، بل قد ينقص وقد يزيد، قال الشارح في منهجه: وهذا هو التحقيق والمذهب الصحيح. انتهى.

وتُقبل رواية المسلم البالغ لِمَا تحمَّله قبلهما؛ أي: حال الكفر والصبي، فقد قبل الناس راوية الحسن والحسين وابني الزبير وعباس وغيرهم من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده، وكذا كان أهلُ العلم يُحْضِرُوْنَ الصبيانَ مجلسَ الحديث وَيَعْتَدُّوْنَ بروايتهم بعد البلوغ، وهذا هو المعتمد، وقيل: لا خلاف في الكافر؛ لأنَّ الصبيَّ لا يضبطُ ما تحمله في صباه غالبًا، بخلاف الكافر، لكن الشارح أجراه أيضًا فيه، وفي الفاسق كالصبي.

ثُمَّ ينبغي للمحدثِ أن يُمسكَ عن التحديثِ إذا خشي التخليط بهرمٍ أو حزنٍ أو عمًى، ويختلف ذلك باختلاف الناس، وضبطُه بالثمانين أغلبيٌّ؛ فقد حدَّث بعدها أنس والشعبي ومالك والليث وابن عيينة، وحدَّث بعد المئة من الصحابة حكيم بن حزام، ومِنْ غيرِهم غيرُه، والمدار على ثبوت الفعل واجتماع الرأي، قال مالك: إنَّما يَخْرَفُ الكذَّابُون.

والأولى أن لا يُحدِّث بحضرة مَن هو أعلىَ منه لسنه أو علمه أو غيرهما، ولا يمتنع من تحديث أحدٍ لكونه غير صحيح النية؛ فإنَّه يُرجى له صحتها بعد ذلك.

قال مَعْمَرٌ: طلبنا الحديث وما لنا فيه نية ثم رزق الله النية بعدُ.

ويُستحبُّ لمنْ أرادَ حضورَ مجلسِ التحديثِ أن يتطهرَ ويتطيبَ ويَستاك ويُسرِّح لحيته ويجلس في وَقَارٍ وهَيبةٍ.

وقد سُئل ابن المسيَّب عن حديثٍ وهو مضطجع في مرضه، فجلس وحدَّث به، وقال: كرهتُ أن أحدِّث عن رسول الله وأنا مضطجع.

ويُكره أن يقومَ لأحدٍ، فقد قيل: إذا قام القارئُ لحديثِ رسول الله لأحدٍ فإنَّه يُكتب عليه بخطيئةٍ، ثم إذا رفعَ أحد صوته في المجلس زجره كما كان مالك يفعله، ويقول: قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات: ٢] فمن رفعَ صوتَهُ عند حديثه فكأنَّما رفعَ صوتَهُ فوق صوته، ويفتتحُ مجلسه ويختمهُ بتحميد الله والصلاة على النَّبيِّ ، ويسأل الله تعالى التسديد والتوفيق لذلك، ويَستعمل الأخلاق الجميلة والآداب المَرْضية، فقد قال أبو عاصم النبيل: مَن طلب هذا الحديث فقد طلبَ أعلى أمور الدين، فيجب أن يكون خير الناس، وليفرغ الطالب جهده في تحصيله، فقد قال يحيى بن كثير: لا يُنَالُ العلمُ براحةِ الجِسْمِ، وقال الشافعي: لا يفلحُ مَن طلبَ العلمَ بغنى النفس، ولكن من طلبه بِذِلَّةِ

<<  <   >  >>