لا يَعْلق إِلَّا بمن قَصَر نفسه عليه، ولم يضمَّ غيره من الفنون إليه. وقال إمامنا الشَّافعيُّ رحمه الله تعالى: أتريد أن تجمع بين الفقه والحديث؟ هيهات. والله ﷾ وليُّ التَّوفيق والعصمة، وله الحمد على كلِّ حالٍ، وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم.
الفصل الرَّابع
فيما يتعلَّق بالبخاريِّ في «صحيحه» من تقرير شرطه وتحريره، وضبطه وترجيحه على غيره، كـ «صحيح مسلمٍ» ومن سار كَسَيْرِهِ، والجواب عمَّا انتقده عليه النُّقَّاد من الأحاديث ورجال الإسناد، وبيان موضعه، وتفرُّده بمجموعه، وتراجمه البديعة المثال، المنيعة المنال، وسبب تقطيعه للحديث واختصاره، وإعادته له في الأبواب وتكراره، وعِدَّةُ أحاديثه الأصول والمكرَّرة، حسبما ضبطه الحافظ ابن حجرٍ وحرَّره.
وهذا الفصل -أعزَّك الله تعالى- لخَّصته من «مقدِّمة فتح الباري»، مستمدًّا من سِيْحِ فضله الجاري،
أنبأتني المسندة أُمُّ حبيبةَ زينبُ بنت الشَّوبكيِّ المكيَّة، أخبرنا البرهان بن صِدّيقٍ الرَّسَّام، أخبرنا أبو النُّون يونس بن إبراهيم عن أبي الحسن بن المُقَيَّر عن أبي المُعَمَّر المبارك ابن أحمد الأنصاريِّ، قال: أخبرنا أبو الفضل محمَّد بن طاهرٍ المقدسيُّ، قال في جزء «شروط الأئمَّة» له: اعلم أنَّ البخاريَّ ومسلمًا ومن ذكرنا بعدهما لم يُنقل عن واحدٍ منهم أنَّه قال: شرطت أن أخرج في كتابي ما يكون على الشَّرط الفلانيِّ، وإنَّما يُعرَف ذلك من سَبْر كتبهم، فيُعلَم بذلك شرط كلِّ رجلٍ منهم، واعلم أنَّ شرط البخاريِّ ومسلمٍ أن يخرجا الحديث المتَّفق على ثقةِ نَقَلَته إلى الصَّحابيِّ المشهور، من غير اختلافٍ بين الثِّقات الأثبات، ويكون إسناده متَّصلًا غير مقطوعٍ، وإن كان للصَّحابيِّ راويان فصاعدًا فَحَسَنٌ، وإن لم يكن له إِلَّا راوٍ واحدٍ إذا صحَّ الطَّريق إلى ذلك الرَّاوي أخرجاه.
ثمَّ قال: أخبرنا أبو بكرٍ أحمد بن عليٍّ الأديب الشِّيرازيُّ بنيسابور، قال: قال أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله؛ يعني: الحاكم في كتابه «المدخل إلى الإكليل»: القسم الأوَّل من المتَّفق عليه اختيار البخاريِّ ومسلمٍ، وهو الدَّرجة الأولى من الصَّحيح؛ ومثاله: الحديث الذي يرويه الصَّحابيُّ المشهور عن رسول الله ﷺ، وله راويان ثقتان، ثمَّ يرويه عنه [التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويانِ ثقتانِ، ثم يرويه عنه] من أتباع التَّابعين الحافظ المتقن المشهور، وله رواةٌ من الطَّبقة الرَّابعة، ثمَّ يكون شيخ البخاريِّ ومسلمٍ حافظًا متقنًا مشهورًا بالعدالة، فهذه الدَّرجة الأولى من الصَّحيح. انتهى. وتعقَّب ذلك الحافظ ابن طاهرٍ، فقال: إنَّ الشَّيخين لم يشترطا هذا الشَّرط، ولا نُقِلَ عن واحدٍ منهما أنَّه قال ذلك، والحاكم قدَّر لهما هذا التَّقدير، وشرط لهما هذا الشَّرط على ما ظنَّ، ولعمري إنَّه لشرطٌ حسنٌ لو كان موجودًا في كتابيهما، إلَّا أنَّا وجدنا هذه القاعدة التي أسَّسها الحاكم مُنتَقضَةً في الكتابين جميعًا، فمن ذلك في الصَّحابيِّ أنَّ البخاريَّ أخرج حديث قيس بن أبي حازمٍ عن مِرْداسَ الأسلميِّ: «يذهب الصَّالحون أوَّلًا فأوَّلًا» [خ¦٦٤٣٤] وليس لمرداسَ راوٍ غير قيسٍ، وأخرج مسلمٌ حديث المسيَّب بن حَزْنٍ في وفاة أبي طالبٍ، ولم يروِ عنه غير ابنه سعيدٍ. وأخرج البخاريُّ حديث الحسن البصريِّ عن عمرو
إِنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ حَدِيْثٍ) فكذبٌ لا مزيدَ عليه.
قوله: (لَاْ يَعْلَقُ) في المصباح عَلِقَ الشوكَ بالثوب عَلَقًا من باب تَعِبَ، وتعلق به إذا نشب واستمسك. انتهى.
(الفصل الرابع)
قوله: (وَمَنْ سَارَ كَسَيْرِهِ)؛ أي: كأصحاب السنن.
قوله: (وَتَرَاجِمِهِ) بكسر الجيم؛ أي: ما تَرجم به من الكتب والأبواب جمعُ ترجمةٍ، وسُمِّيَ ما ذكر تراجمًا؛ لأنَّه مُترجم عما بعده؛ لأنَّ ما يُذكر في الباب مثلًا تُنبئ عنه الترجمة وتُبَيِّنُهُ.
قوله: (المَنِيْعَةَ المَنَالِ) بفتح الميم فيهما؛ أي: التي يمتنعُ أن ينالها غيره؛ أي: يأتي بها، أو المراد أنَّه لا ينالها السامع؛ -أي: يفهمها- إلَّا بالتَّأَمُّلِ الصادقِ والذِّهْنِ الرَّائق والفِطنة الزائدة والقَرِيحة المُتَوَقِّدَةِ.
قوله: (تَقْطِيْعِهِ لِلْحَدِيْثِ)؛ أي: ذِكرهُ مُقَطَّعًا بعضه في ترجمة وبعضه في أخرى؛ بحسب الاحتجاج به في المسائل كلِّ مسألة على حدة، وفيه خلاف، قال النووي: وهو إلى الجواز أقرب. انتهى.
وقد فعله الأئمة كمالك والمصنِّف وغيرِهما.
قوله: (وَاخْتِصَارِهِ)؛ أي: باختصار سنده، كأن يذكره في بعض الأبواب موصولًا وبعضها مرسلًا أو موصولًا أيضًا لكن بطريقٍ أُخرى تنقص عن الأولى.
قوله: (وَمَنْ ذَكَرْنَا بَعْدَهُم) صوابه بعدهما، ولعلَّ المراد تنويهه بقوله في أول الفصل (كَصَحِيْحِ مَسْلِمٍ وَمَنْ سَارَ كَسَيْرِهِ) وتقدَّمَ أنَّ المراد بذلك أربابُ السنن الأربعة؛ أي: أبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه.
قوله: (أَنَّهُ قَالَ: شَرَطتُ … ) إلى آخره؛ أي: ولا وجود لذلك في كتابيهما ولا خارجًا عنهما.
قوله: (أَنَّ شَرْطَ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ … ) إلى آخره، المراد بالشرط هنا ما التزماه في تخريج الأحاديث، وهو الشرط المطلق، وأما ما اختلفا فيه من اللُّقِيِّ والاكتفاء بالمعاصرة فهذا شرطهما في المُعنعن خاصة.
قوله: (نَقَلَتِهِ) بالتحريك جمع ناقلٍ.
وقوله: (مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاْفٍ) يحتملُ أنَّ المُراد في توثيقِ النَّقلة المذكورين بحيثُ لم يجرحهم جارحٌ، ويحتملُ أنَّ المراد من غير اختلافٍ في رواية هذا الحديث عنه.
قوله: (الأَثْبَات) بفتح الهمزة، جَمْعُ ثَبْتٍ.
قوله: (وَمِثَالُهُ الحَدْيْث … ) إلى آخره، كذا في النسخ، وفيه سقطٌ كما يعلم من نقل الحافظ السيوطي في «شرح التقريب».
عبارة «المَدْخل» هي: الدرجة الأولى من الصحيح اختيار البخاري ومسلم، وهو أن يروي الحديث عن النَّبيِّ ﷺ صحابيٌّ زائلٌ عنهُ اسم الجهالة بأن يروي عنه تابعيان عدلان، ثم يروي عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة، وله راويان ثِقتان، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين حافظٌ متقنٌ وله رواة من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظًا مشهورًا بالعدالة في روايته، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا كالشهادة على الشهادة. انتهى.
قوله: (مُنْتَقَضَةً)؛ أي: بأنَّ في الصحيحين غرائبَ تفرَّدَ بِهَا بعضُ الرُّواةِ كالذي ذكره الشارح.
قوله: (أَوَّلًا فَأَوَّلًا) نصبٌ على الحالِ؛ أي: مرتبين.
قوله: (المُسَيَّب) بضم الميم وفتح السين والياء التحتية، وحُكي كسرها في والد سعيد دون غيره، كما في «ترتيب المطالع».
وقوله: (ابْنُ حَزْن) بفتح المهملة وسكون الزاي، آخره نون.