للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من وجوه التَّرجيح متنًا أو إسنادًا لكثرة الرُّواة وصفاتهم تعيَّن المصير إليه، وإلَّا فيُجمَع بينهما، فإن لم يمكن

فخُصَّ عُمومُ كلٍّ مِنْهُمَا بالآخر، وكحديث: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ» مع حديث «لَاْ عَدْوَى» وسيأتي في نوعِ المختلفِ الكلامُ على هذين الحديثَين.

قوله: (مِنْ وُجُوْهِ التَّرْجِيْحِ)؛ أي: كالتَّرجيحِ بصفاتِ الرواةِ ككون رواة أحدهما أتقن وأحفظ، ووجوه الترجيح أوصلها العراقي في «نُكته» إلى أكثر من مئةٍ، وهي راجعةٌ إلى سبعة أقسام:

الأول: الترجيحُ بحال الراوي: ككثرةِ الرُّواة؛ لأنَّ احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعدُ من احتماله على الأقل، وكقلة الوسائط؛ -أي: علو الإسناد- حيث الرجال ثقات؛ لأنَّ احتمال الوهم فيه أقلُّ، وفقهِ الراوي؛ لأنَّ الفقيه إذا سمع ما يمتنعُ حمله على ظاهره بحثَ عنه حتى يطلعَ على ما يزول به الإشكال بخلاف العامي، وعِلمِه باللغةِ والنحو؛ لأنَّ العالِمَ بهما يتمكن من التحفظ عن مواقع الزلل ما لا يتمكن منه غيره، وكحفظه بخلاف مَن يَعْتَمِدُ على كتابه، وأفضليته في أحد الثلاثة بأن يكونا فقيهين أو نحويين أو حافظين، وأحدهما في ذلك أفضل من الآخر، وكزيادة ضبطه؛ -أي: اعتنائه واهتمامه بالحديث- وشُهرته؛ لأنَّها تمنع الشخص من الكذب كما تمنعه التقوى، وورعه وحسن اعتقاده بأن يكون غير مبتدعٍ، ومجالسته لأهل الحديث أو غيرهم من العلماء أو كونه أكثر مجالسة لهم، وذكورته، وحريته، وشهرة نسبه، وعدم اللَّبس في اسمه بحيث لا يُشاركه فيه ضعيفٌ ويصعب التمييز بينهما، أو لهُ اسمٌ واحد ولذاك أكثر، وعدم اختلاطه، وثبوت عدالته بالاختبار بخلاف مَن تثبت بالتزكية، أو العمل بروايته إن قلنا بها، وعمل من يزكيه بخبرِه مع كون الثاني لم يعمل بخبرهِ مُزكيه، والاتفاق على عدالته وذكر سببها، وكون المزكيّن له أكثرَ عددًا وعِلمًا أو كثيري الفحص عن أحوال الناس، وكونه صاحب القصة كتقديم خبر أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِي فِيْ الصَّوْمِ لِمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا على خبر الفضل بن العباس في منعه؛ لأنَّها أعلمُ منه، ومباشرته لما رواه إذا كان الثاني لم يُباشر، وتأخرَ إسلامه على الراجح، وقيل: عكسه؛ لقوة أصالةِ المتقدم وكونِهِ أحسن سياقًا واستقصاءً لحديثه، أو سمعَ من مشايخ بلده مع مساواتهم لغيرهم وكونه مشافِهًا مُشاهدًا لشيخه حال الأخذ عنه، أو لا يجيز الرواية بالمعنى، أو من أكابر الصحابة ، وكونه عليًّا في الأقضية ومعاذًا في الحلال والحرام، وزيدًا في الفرائض، وكونِ الإسناد حجازيًا أو رواته من بلدٍ لا يرضونَ التدليس.

القسم الثاني: الترجيحُ بالتَّحَمُّل وذلك بوجوهٍ:

منها الوقت؛ فيرجحُ مَن لم يتحمل الحديث إلَّا بعد البلوغ على مَن تحمَّلَ من قبل ومن بعد، لاحتمال أن يكون هذا الذي رواه مما قبل والذي بعده أقوى لتأهله للضبط.

ومنها أن يتحمل تحديثًا والآخر عرضًا، أو عرضًا والآخر كتابة أو مناولة أو وجادة.

القسم الثالث: الترجيحُ بكيفيةِ الروايةِ كتقديمِ المَحكي بلفظه على المحكي بمعناه، والمشكوك فيه على ما عُرف أنَّه مَرويٌّ بالمعنى، وما ذكر فيه سبب وروده على ما لم يذكر، لدلالته على اهتمام الراوي به حيث عرف سببه، وأن تكون ألفاظه دالةً على الاتصال كحدثنا وسمعت، أو اتفق على رفعه أو وصله، أو لم يختلف في إسناده، أو لم يضطرب لفظه، وأن لا ينكره راويهِ ولا يتردد فيه.

القسم الرابع: الترجيحُ بوقت الورود؛ كتقديم المدني على المكي، والدالِّ على علو شأن المصطفى على الدال على الضعف؛ لبدء الإسلام غريبًا ثم شهرته فيكون الدال على العلو متأخرًا، والمتضمنِ للتغليظ على المتضمنِ للتخفيف على المعتمد؛ لأنَّه جاءَ بالإسلام أولًا ثم شُرعت العبادات شيئًا فشيئًا، وترجيح ما تَحَمَّل بعد الإسلام على ما تحمل قبله أو شكَّ؛ لأنَّه أظهرَ تأخرًا، والمُؤَرَّخِ بقربِ وفاته على غير المؤرخِ، أو المؤرخ بتاريخٍ مُتقدم، قال الرازي: الترجيحُ بما ذكر أي: في هذا القسم كله غير قوي.

قلت: ومع ذلك فهو من التقديم بالتاريخ على ما يظهر.

القسم الخامس: الترجيحُ بلفظِ الخبرِ؛ كترجيح الخاص على العام، أو العام الذي لم يخصصْ على المُخصص لضعف دلالته بعد التخصيص على باقي أفراده، والمطلق على ما ورد على سبب، والحقيقة على المجاز، والشرعية على غيرها، والعرفية على اللغوية، والمُسْتَغْنِي عن الإضمار والمنطوق على المفهوم، ومفهوم الموافقة على المخالفة، والمنصوص على حكمه على المشبه بمحل آخر، والمستفاد عمومه من الشرط والجزاء على النكرة المنفية أو من الجمع المُعَرَّفِ على (منْ)، وما خطابه تكليفي على الوضعي، وما حكمه معقولُ المعنى، وما قُدِّم فيه ذكر العلة، والمقارن للتهديد،

<<  <   >  >>