وقد رواه غير واحدٍ عن ابن عُيينة عن الزُّهريِّ؛ يعني: بدون وائلٍ وولده، قال: وكان ابن عُيينة ربَّما دلَّسهما، والحكمُ بالتفرُّد يكون بعد تتبُّع طرق الحديث الذي يُظَنُّ أنَّه فردٌ، هل شارك راويه آخر أم لا؟ فإن وُجِدَ بعد كونه فردًا أنَّ راويًا آخر ممَّن يَصلُح أن يُخرج حديثه للاعتبار والاستشهاد به وافقه؛ فإن كان التَّوافق باللَّفظ سُمِّي متابعًا، وإن كان بالمعنى سُمِّي شاهدًا، وإن لم يوجد من وجهٍ بلفظه أو بمعناه؛ فإنَّه يتحقَّق فيه التفرُّد المطلق حينئذٍ. ومظنَّة معرفة الطُّرق التي تحصل بها المتابعات والشَّواهد، وتنتفي بها الفرديَّة الكتب المصنَّفة في «الأطراف»، وقد مثَّل ابن حبَّان لكيفيَّة الاعتبار؛ بأن يروي حمَّاد بن سلمة حديثًا لم يُتابَع عليه عن أيُّوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النَّبيِّ ﷺ، فينظر هل روى ذلك ثقةٌ غير أيُّوب عن ابن سيرين؟، فإن وُجِد عُلِمَ به أنَّ للحديث أصلًا يُرجَع إليه، وإن لم يُوجَد ذلك فثقةٌ غير ابن سيرين رواه عن أبي هريرة، وإلَّا فصحابيٌّ غير أبي هريرة رواه عن النَّبيِّ ﷺ، فأيُّ ذلك وُجِدَ عُلِمَ به أنَّ للحديث أصلًا يُرجَع إليه، وإلا فلا. وكما أنَّه لا انحصار للمتابعات في الثِّقة كذلك الشَّواهد، فيدخل فيهما رواية من لا يُحتَجُّ بحديثه وحده، بل يكون معدودًا في الضُّعفاء، وفي «البخاريِّ» و «مسلمٍ» جماعةٌ من الضُّعفاء ذَكَرَاهم في المتابعات والشَّواهد، وليس كلُّ ضعيفٍ يصلح لذلك. ولذا قال الدَّارقطنيُّ: فلانٌ يعتبر به وفلانٌ لا يُعتبَر به. وقال النَّوويُّ في «شرح مسلمٍ»: وإنَّما يُدخِلون الضُّعفاء لكون التَّابع لا اعتماد عليه، وإنَّما الاعتماد على من قبله. انتهى.
قال شيخنا: ولا انحصار له في هذا، بل قد يكون كلٌّ من المتابَع والمتابِع لا اعتماد عليه، فباجتماعهما تحصل القوَّة، ومثال المتابع والشَّاهد: ما رواه الشَّافعيُّ في «الأمِّ» عن مالكٍ عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ﵄: أنَّ رسول الله ﷺ قال: «الشَّهر تسعٌ وعشرون، فلا تصوموا حتَّى تَرَوُا الهلال، ولا تفطروا حتَّى تَرَوْهُ، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدَّةَ ثلاثين»، فإنَّه في جميع «الموطَّآت» عن مالكٍ بهذا السَّند بلفظ: «فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له». وأشار البيهقيُّ إلى أنَّ الشَّافعيَّ تفرَّد بهذا اللَّفظ عن مالكٍ، فنظرنا، فإذا البخاريُّ روى الحديث في «صحيحه»، فقال: حدَّثنا عبد الله بن مسلمة القعنبيُّ، حدَّثنا
إنَّما تفردَ بهِ من حيثيةِ روايته إياهُ عن فلان، وإن كان مرويًا من وجوه أُخَرَ عنْ غيره.
قوله: (غَيْرُ وَاحِدٍ) كمحمد بن الصَّلت التَّوَّزِي -بتشديد الواو المفتوحة بالزاي المعجمة- عنه، عن زياد بن سعد عن الزهري.
قوله: (دَلَّسَهُمَا)؛ أي: أسقطهما؛ أي: وائلًا وأباه، تدليسًا لإيهام أنَّه رَوى عن الزهري بلا واسطة.
قوله: (بَعْدَ كَوْنِهِ فَرْدًا)؛ أي: بحسب الظاهر قبل النظر والبحث.
قوله: (مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ يُخْرَجَ حَدِيْثُهُ للاعْتِبَارِ)؛ أي: بأنْ لمْ يكنْ ضعيفًا، أو كان لكنه غيرُ شديدِ الضعفِ؛ فإنَّه لا انحصارَ للمتابعات والشواهد في الثقة بل يدخلُ فيها الضعفاء، لكن ليس كل ضعيف يصلح لذلك، كما سيُنَبه عليه الشارح، بل ضعيف الضعف فقط.
والاعتبار هو: أن تَعْمَدَ إلى الحديثِ الذي تراهُ فردًا فتعتبره وتعتني به وتبحث وتفتش في طرقه فتنظر هل رواه راو آخر بلفظه أو معناه أو لا؟ فإن وُجِدَ عُلِمَ أنَّ له أصلًا يُرجع إليه، ثم إنْ كان بمعناه فهو الشاهد: فهو متنٌ بمعنى الحديث الفرد عن رواية صحابي آخر، أو بلفظه فهي المتابعة: فهي وجدانُ راوٍ مشاركٍ لما روى منفردًا فيما رواه بلفظه؛ وهي إمَّا أن تكون لنفس الراوي بأن روى هذا الحديث عن الشيخ الراوي الأول نفسه، أو لشيخه، أو لشيخ شيخه وهكذا إلى آخر الإسناد.
فالأولى متابعة تامة وما عداها متابعة قاصرة، وهي بأقسامها تُكسب قوةً في الفرد، وإن كانت الأولى أعلى، ويليها ما بعدها وهكذا إلى الآخر، وسيأتي التمثيل لكلٍّ من الاعتبار والمتابعة والاستشهاد في كلام الشارح.
قوله: (وَافَقَهُ)؛ أي: وافق ذلك الراوي الذي روى الفرد.
قوله: (سُمِّيَ مُتَابِعًا)؛ أي: فتختصُّ المتابعةُ بما كان باللفظِ سواءً كان من رواية ذلك الصحابي أم لا؟ والشاهد أعمُّ، وقيل: هو مخصوصٌ بما كان بالمعنى، وقال شيخ الإسلام: يُسمى الشاهد متابعة أيضًا.
قوله: (وَإِنْ لَمْ يُوْجَدُ مِنْ وَجْهٍ)؛ أي: كالحديث الذي رواه الترمذي من طريق حمَّاد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أراه رفعه: «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا … » الحديث، قال الترمذي: غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلَّا من هذا الوجه.
قوله: (فِيْ الأَطْرَافِ)؛ أي: أطراف الأحاديث وطُرُقِهَا، أو أطراف الدنيا.
قوله: (لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ)؛ أي: في بادئ الرأي قبل النظر فيه كما تقدمت الإشارة إليه، لا قطعًا.
قوله: (فَيُنْظَر … ) إلى آخره، هذه هي كيفية الاعتبار؛ لأنَّك تعتبر هذا الفرد برواياتِ غيره من الرواة، وسَبْرِ طُرُقِ الحديث.
قوله: (غَيْرُ أَيُّوْب عَنْ ابْنِ سِيْرِيْن) وهذه متابعة تامة، وهي الموافقة لنفس الراوي في الرواية عن شيخ.
وقوله: (وَإِنْ لَمْ يُوْجَدْ ذَلِكَ)؛ أي: رواية أحد غير أيوب، عن ابن سيرين.
وقوله: (فَثِقَةٌ غَيْرُ ابنِ سِيْرِين) وهذه متابعة قاصرة.
قوله: (فَأَيُّ ذَلِكَ وُجِدَ … ) إلى آخره؛ أي: كما سيأتي للشارح في رواية الشافعي، عن مالك، عن عبد الله ابن دينار في حديث: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُوْنَ».
قوله: (فَيَدْخُلُ فِيْهَا)؛ أي: في الشواهد كما يدخل في المتابعات.
قوله: (وَلَيْسَ كُلُّ ضَعِيْفٍ يَصْلُحُ لِذَلِكَ)؛ أي: للمتابعة والاستشهاد بحديثهِ، بل ذلك خاصٌ بمن لم يشتدَّ ضعفه، ولذا قال الدَّارَقُطني: لا تُعتبرُ متابعة ولا استشهاد كل ضعيف.
قوله: (قَالَ شَيْخُنَا) هو أبو الخير السَّخَاوي شارح «ألفية العراقي».
قوله: (مِنَ المُتَابَع والمُتَابِع) بفتح الموحدة في أحدهما وكسرها في الآخر.
(وَمِثَالُ المُتَابِعِ وَالشَّاهِدِ)؛ أي: فقد اجتمعا في هذا الحديث.
قوله: (فِيْ جَمِيْعِ المُوَطَّآتِ)؛ أي: روايات مالك في الموطأ.
قوله: (تَفَرَّدَ بِهَذَا اللَّفْظِ)؛ أي: قوله: («فَأَكْمِلُوْا العِدَّةَ … » إلى آخره)، ولذا عُدَّ من غرائب الشافعي؛ لأنَّ أصحاب مالك رووه عنه بهذا الإسناد بلفظ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ» لكن وجدنا للشافعي متابِعًا، وهو عبد الله بن مسلمة القَعنبي، فإنَّه رواه عن مالك بلفظ الشافعي، وهذه متابعة تامة كما قال الشارح لمتابعة القَعْنَبِي للشَّافعي في شيخه مالك واللفظُ