ينفرد الرَّاوي الواحد عَنْ كلِّ واحدٍ من الثِّقات وغيرهم، ويكون
بالنِّسبة إلى صفةٍ خاصَّةٍ، وهو أنواعٌ:
ما قُيِّد بثقةٍ؛ كقول القائل في حديث قراءته ﷺ في الأضحى والفطر بـ «ق» و «اقتربت»، لم يروِه ثقةٌ إلَّا ضَمرة بن سعيدٍ، فقد انفرد به عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي واقدٍ الليثيِّ صحابِيِّهِ. أو ببلدٍ معيَّنٍ؛ كمكَّة والبصرة والكوفة؛ كقول القائل في حديث أبي سعيد الخدريِّ المرويِّ عند أبي داود في كتابَيْه «السُّنن»، و «التَّفرُّد»، عن أبي الوليد الطَّيالسيِّ عن هَمَّام عن قتادة عن أبي نضرة عنه، قال: «أمرنا رسول الله ﷺ أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسَّر». لم يروِ هذا الحديث غير أهل البصرة. قال الحاكم: إنَّهم تفرَّدوا بذكر الأمر فيه من صفة وضوء النَّبيِّ ﷺ: إنَّ قولَه: «ومسح رأسه بماءٍ غير فضلِ يده»، سنَّةٌ غريبةٌ تفرَّد بها أوَّل الإسناد إلى آخره، ولم يَشْرَكْهم في لفظه سواهم. وكذا قال في حديث عبد الله بن زيدٍ في أهل مصر لم يَشرَكْهم أحدٌ، ولا يقتضي شيءٌ من ذلك ضعفَه، إلَّا أن يراد تفرُّدُ واحدٍ من أهل البصرة، فيكون من الفرد المطلق. والثَّالث: ما قُيِّد براوٍ مخصوصٍ حيث لم يروه عن فلانٍ إلَّا فلانٌ، كقول أبي الفضل بن طاهرٍ عقب الحديث المرويِّ في «السُّنن الأربعة» من طريق سفيان بن عيينة عن وائل بن داود عن ولده بكر بن وائل عن الزُّهريِّ عن أنسٍ: (أنَّ النَّبيَّ ﷺ أَوْلَمَ على صفيَّة بسويقٍ وتمرٍ)، لم يروِه عن بكرٍ إلَّا وائلٌ، ولم يروِه عن وائلٍ غيرُ ابن عُيينة، فهو غريبٌ؛ ولذا قال التِّرمذيُّ: إنَّه حسنٌ غريبٌ، قال:
الأول: المُقيَّد بالثقة، وإليه الإشارة بقوله (مَا قُيِّدَ بِثِقَةً).
الثاني: المُقَيَّدُ بأهلِ بلدٍ مخصوصٍ كمكة، وإليه الإشارة بقوله (أَوْ بِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ).
الثالث: ما يُقيد براوٍ مخصوص … إلى آخره.
وعلى كلٍّ فلا يُعتبر فيه المُخالفة لما رواه الغير بل المدار فيه على التفرد؛ بأن يروي ما لم يروه غيره سواءٌ خالفَ غيره؛ -أي: في الحكم- أو لا، بخلاف الشاذ فيعتبر فيه مع التَّفرد المخالفة، ثم الظاهر تقسيمه -كالغريب والشاذ- إلى مُفرد في السند وإلى مفرد في المتن.
مثاله في السند: ما رواه التِّرمذي والنَّسائي من طريق ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عَوْسَجَة، عن ابن عباس: «أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ على عَهْدِ رسول اللهِ ﷺ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّاْ مَوْلًى هُوَ أَعْتَقَهُ»، فإنَّ حمَّاد بن زيد رواه عن عمرو، عن عوسجة، ولم يذكر ابن عباس، لكن تابع ابن عيينة على وَصْلِهِ [ابن] جُرَيج وغيره.
ومثاله في المتن زيادة يوم عرفة في حديث: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» فإنَّه من جميع طرقه بدونها، وإنَّما جاء بها موسى بن عُلي -بالتصغير- بن رباح، عن أبيه، عن عُقبة بن عامر، وصحَّحَهُ ابن حبَّان والحاكم وقال: على شرط مسلم.
قوله: (عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ)؛ أي: من رُواة هذا الحديث، وحُكْمُ هذا القسم على ما ذكره ابن الصلاح أنَّ الرَّاوي المنفرد المذكور إذا لم يخالف غيره وكان ذا ضبطٍ تامٍّ ففردهُ صحيحٌ مقبولٌ، كحديثِ النَّهي عن بيع الولاء وهِبَتِهِ؛ فإنَّه لم يصحَّ إلَّا من رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وإذا كان قريبًا من الضبط التام ففردُهُ حسنٌ مقبولٌ، كحديث إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة، عن أبيه، عن عائشة قالت: «كَانَ رَسُوْلُ الله ﷺ إِذَا خَرَجَ من الْخَلَاءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ» فقدْ قال فيه الترمذي: (حسن غريب لا نعرفه إلَّا من حديث إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة)، وإذا كان بعيدًا عن الضبط فشاذٌّ مردودٌ كحديث أبي زُكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا: «كُلُوا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ؛ فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ إِذَا أَكَلَهُ غَضِبَ الشَّيْطَانَ»، قال النَّسائي: هذا حديثٌ تفرَّدَ به أبو زُكير وهو لم يبلغ مبلغ مَن يُحتمل تفرُّدُهُ، بل ضعَّفه القوم، وقال العُقيلي: (لا يُتابع على حديثه)، فَتَحَصَّلَ أنَّ الفردَ المخالف والفرد الذي ليس في روايته من الضبط والتوثق ما يَجبر تفرده من النَّكارة والضعف؛ مردودان، والثالث مقبول.
فائدة: قال ابن دقيق العيد: إذا قيلَ حديثٌ تفرَّدَ به فلان عن فلان احتمل أن يكون تفرُّدًا مُطلقًا، وأن يكون تَفَرَّدَ بِهِ عن هذا المُعين خاصةً، ويكون مرويًا عن غير ذلك المعين فتنبَّه لَهُ.
قوله: (وَهُوَ أَنْوَاعٌ) الضمير لهذا القسم الذي هو (الفرد النسبي) أقول: الظاهر أنَّ الفردَ يُغاير الغريب بالنظر لهذا القسم بأنواعه فهو أعمُّ منه. وقوله: (أنواع)؛ أي: ثلاثة كما علمت وحكمه بأنواعه قريب من حكم الفرد المطلق؛ فينظر فيه هل بلغ رتبة الضبط التام أو قاربَ منه أو لا؟.
قوله: (مَا قُيِّدَ بِثِقَةٍ)؛ أي: بروايته إياه عن غيره، كقولهم: لم يروه ثقة إلَّا فلان.
قوله: (كَقَوْلِ القَائِلِ)؛ أي: الذي اطَّلَعَ على طُرُقِ الحَدِيْثِ فرأى ذلك التفرد.
قوله: (لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ … ) إلى آخره؛ أي: وأمَّا من غيرِ الثِّقات فرواهُ ابنُ لَهِيْعَةَ وهو ضعيفٌ عند الجمهور، عن خالد بن زيد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن أَبي واقد، بالقاف بعد الألف.
وقوله: (صَحَابِيِّهِ) بدل منه، ولعل ضميره للحديث؛ أي: صحابي ذلك الحديث الذي رواه عن النَّبيِّ ﷺ، ولينظر ما فائدة هذا الإبدال، سيما وهو مرويٌّ عن عائشة أيضًا -كما تقدم- فليس له صحابي واحد.
قوله: (السُّنَنِ) بالجر بدلٌ من (كتابَيْه)، و (التفرد) عطفٌ على السنن، وهو اسم كتاب له أيضًا.
قوله: (عَنْ أَبِي نَضْرَةَ) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: وهو المنذر بن مالك العبدي، تابعي.
قوله: (عَنْهُ)؛ أي: عن أبي سعيد المُتقدِّم في قوله في حديث أبي سعيد.
قوله: (وَلَاْ يَقْتَضِي شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ)؛ أي: من أنواع القسم الثاني، أعني: التَّفرد النسبي.
وقوله: (ضَعْفَهُ)؛ أي: الحديث المتفرد به من ذُكِرَ؛ أي: من حيث كونه فردًا.
وقوله: (إِلَّا أَنْ يُرَادَ)؛ أي: بقوله: (تفرَّد به أهل البصرة مثلًا)، وقوله: (تفرد واحد)؛ أي: تجوزًا، ومثل ما ذكر قولهم: (لم يروه ثقة إلَّا فلان)، كما في «شرح التقريب» ثمَّ يصحُّ أن يُقرأَ (واحد) بالجر على الإضافة، وبالرفع على الفاعلية.
قوله: (فَيَكُوْنُ مِنَ الفَرْدِ المُطْلَقِ)؛ أي: فحُكْمُهُ كحُكْمِهِ؛ لأنَّ روايةَ غيرِ الثِّقة كَلَا رواية، فيُنظر في المنفرد به: هل بلغ رتبة مَن يُحتجُّ بتفرده أو لا؟ وفي غير الثقة: هل بلغ رتبة مَن يُعتبر بحديثه أو لا؟
قوله: (مَا قُيِّدَ بِرَاوٍ مَخْصُوْصٍ)؛ أي: بكونه عن راوٍ مخصوصٍ؛ أي: تقيَّدَ بكونِ المُنفرد به