والزَّين عبد البرِّ ابن الشِّحنة، والعلَّامة الرَّضيُّ الغزِّيُّ.
ونَظَم شيخ الإسلام البلقينيُّ مناسبات ترتيب تراجم البخاريِّ، فقال:
أتى في البخاري حكمةٌ في التَّراجمِ … مناسبةٌ في الكُتْبِ مثل البراجمِ
فمبدأ وحي الله جاء نبيُّه … وإيمانُ يتلوه بعقد المعالم
وإنَّ كتاب العلم يُذكَر بعده … فبالوحي إيمانٌ وعلم العوالم
وما بعد إعلامٍ سوى العمل الذي … به يَرِدُ الإنسان وِرْدَ الأكارم
ومبدؤه طهرٌ أتى لصلاتنا … وأبوابه فيها بيان الملائم
وبعد صلاةٍ فالزَّكاة تبيعها … وحجٌّ وصومٌ فيهما خُلْفُ عالَم
روايته جاءت بخلْفٍ بصحَّةٍ … كذا جاء في التَّصنيف طبق الدَّعائم
وفي الحجِّ أبوابٌ كذاك بعمرةٍ … لِطَيْبَةَ جاء الفضل من طيب خاتم
معاملة الإنسان في طوع ربِّه … يليها ابتغاء الفضل سوق المواسم
وأنواعها في كلِّ بابٍ تميَّزت … وفي الرَّهن والإعتاق فكُّ الملازم
فجاء كتاب الرَّهن والعتق بعده … مناسبةٌ تخفى على فهم صارم
كتابة عبدٍ ثمَّ فيها تبرُّعٌ … كذا هبةٌ فيها شهود التَّحاكم
كتاب شهاداتٍ تلي هبةً جرت … وللشُّهدا في الوصف أمرٌ لحاكم
وكان حديث الإفك فيه افتراؤهم … فويلٌ لأفَّاكٍ وتبًّا لآثم
وكم فيه تعديلٌ لعائشة التي … يبرِّئها المولى بدفع العظائم
كذا الصُّلح بين النَّاس يُذكَر بعده … فبالصُّلح إصلاحٌ ورفع المظالم
وصلحٌ وشرطٌ جائزان لشرعه … فذكر شروطٍ في كتابٍ لعالم
كتاب الوصايا والوقوف لشارطٍ … بها عمل الأعمال تمَّ لقائم
معاملتا ربٍّ وخلقٍ كما مضى … وثالثها جمعٌ غريبٌ لفاهم
كتاب الجهاد اجهد لإعلاء كلِمةٍ … وفيه اكتساب المال إلَّا لظالم
فيملك مال الحرب قهرًا غنيمةً … كذا الفيء يأتينا بعزِّ المغانم
وجزيتهم بالعقد فيه كتابها … موادعةٌ معها أتت في التَّراجم
كتابٌ لبدء الخلق بعد تمامه … مقابلة الإنسان بَيْدَ المقاسم
وللأنبيا فيه كتابٌ يخصُّهم … تراجمُ فيها رتبةٌ للأكارم
فضائل تتلو ثمَّ غزو نبيِّنا … وما قد جرى حتى الوفاة لخاتم
وإنَّ نبيَّ الله وصَّى وصيَّةً … تخصُّ كتاب الله يا طيب عازم
كتابٌ لتفسيرٍ تعقَّبَه بهِ … وإنَّ أولي التَّفسير أهل العزائم
وفي ذاك إعجازٌ لنا ودليلنا … وإحياؤه أرواح أهل الكرائم
كتاب النِّكاح انْظُرْهُ منه تناسلٌ … حياةٌ أتت منه لطفلٍ محالم
وأحكامه حتَّى الوليمة تلوها … ومن بعدها حسن العشير الملائم
كتاب طلاقٍ فيه أبوابُ فرقةٍ … وفي النَّفقات افرق ليسرٍ وعادم
وأطعمةٌ حلَّت وأخرى فحرِّمت … ليجتنب الإنسان إثم المحارم
وعقٌّ عن المولود يتلو مطاعمًا … كذا الذَّبح معْ صيدٍ بيان الملائم
وأضحيةٌ فيها ضيافة ربِّنا … ومن بعدها المشروب يأتي لطاعم
وغالب أمراض بأكلٍ وشربةِ … كتابٌ لمرضانا برفع المآثم
فبالطِّبِّ يُستشفَى من الدَّا برُقْيَةٍ … بفاتحة القرآن ثمَّ الخواتم
لباسٌ به التَّزيين فانظره بعدهُ … كذا أدبٌ يُؤتَى به بالكرائم
وإنَّ بالاستئذان جلب مصالح … به تفتح الأبواب وجه المسالم
وبالدَّعْوات الفتح من كلِّ مغلقٍ … وتيسير أحوالٍ لأهل المعازم
رقاقٌ بها بعد الدُّعاء تَذكُّرٌ … وللقدر اذكره لأصل الدَّعائم
ولا قَدَرَ إلَّا من الله وحده … تبرُّرنا بالنَّذر شوقًا لحاتم
وأيمانٌ من كتبٍ وكفَّارةٌ لها … كذا النَّذر في لُجٍّ بدا من ملاحم
بالظاء المشالة والضاد المعجمة: مدحُ الإنسان، وهو حيٌّ وغلبَ استعماله في مدح التآليف وأربابها.
قوله: (ابْن الشَّحْنَةِ) بفتح الشين المعجمة وسكون الحاء المهملة.
قوله: (فِيْ التَّرَاجِمِ) بالفوقية والجيم المكسورة جمعُ ترجمةٍ، والمرادُ بها الكتب والأبواب التي فيه؛ أي: جاء في ترتيبها -على النَّسق الذي نَسقه الظاهر منه التنافر بين معظمها- حكمةٌ جليلةٌ، وهي مناسبة في الكتب؛ أي: تَنَاسب وارتباط بين الكتب المترجم بها كائنةٌ مثلَ البراجم، تظهرُ بحسن التأمل ودقةِ النظر.
قوله: (البَرَاجِمِ) بالموحدة والجيم، جمع بُرْجُمَة بضم الموحدة والجيم، البَنَان، ويُقالُ لظهورها وبطونها: الرواجب كما في «الكفاية»، والمراد مثلها في التناسب.
قوله: (فَمَبْدَأُ وَحْيِ الله) خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: فأولها مبدأ إلى آخره، ويتلوه «كتاب الإيمان».
وقوله: (بِعَقْدِ المَعَالِمِ)؛ أي: حالَ كونه بعقدِ المعالم؛ أي: النيات، والمناسبةُ في الابتداءِ بالوحي وإيلائه الإيمان، ثم بقية التراجم ظاهرة، وهي أنَّ الاعتماد على جميع ما سيذكره في الصحيح يتوقف على كونه ﷺ نبيًّا أوحي إليه، والإيمان به إنَّما يجب لذلك، ثم يتبعه بقية التكاليف والأحكام ولذا قال: فبالوحي إيمانٌ، وعلم العوالم؛ أي: علم النفوس العوالم، ولفظ إيمان في الأول غير مُنون للضرورة.
قوله: (وَمَا بَعْدَ إِعْلَامٍ … ) إلى آخره؛ أي: ليسَ بعدَ الإعلام بالشيءِ الواجبِ إلَّا العمل به الذي يرد الإنسان به (وِرد الأكارم) بكسر الواو: النصيب من الماء، مستعارٌ لما به تحيا النفوس من القيام بالتكاليف، والأكارم جمع كريم كمَثيل وأماثل؛ أي: فلذا أعقب كتاب العلم بكتاب الوضوء وهكذا إلى آخر الأعمال.
وقوله: (وَمَبْدَؤُهُ طُهْرٌ)؛ أي: مبدأُ العمل طهر … إلى آخره.
وقوله: (وَأَبْوَابُهُ) مَبْتَدَأ، و (بيانُ الملائمِ) مبتدأ ثان وفيها خبره وهو وخبره خبر الأول؛ أي: أبواب الطهر فيها بيانُ المناسبِ له من وضوءٍ وغسلٍ وغيرهما.
وقوله: (وَبَعْدَ صَلَاةٍ) إما أن يُقْرَأ بالإضافة أو عدمها، على أن المراد وبعد الطهارة وما يتعلق بها صلاة … إلى آخره.
وقوله: (فِيْهِمَا خُلْفُ عَالَم) بفتح اللام: جماعة من الناس؛ أي: في تقديم كل منهما على الآخر.
وقوله: (رِوَايَتُهُ)؛ أي: الخُلف.
وقوله: (بِخلف)؛ أي: مصحوبة بخلف.
وقوله: (الدَعَائِمِ) جمع دِعَامة بكسر الدال عماد البيت، مستعارٌ هنا للأصول المروية عن الشيخ والنُسخ المسموعة منه.
وقوله: (لِطَيْبَةَ … ) إلى آخره، مرادُهُ أنَّه جاء ذكرُ فضلِ طيبةَ -وهي المدينة- إثرَ فضل مكة التي بها شعار الحج للمناسبة الظاهرة، والمراد بالخاتم خاتم الأنبياء ﷺ.